يسألونك عن الأهلة

إهتمام المسلمين بثبوت الهلال لبعض الأشهر العربية لإحراز موضوع بعض الأحكام الشرعية من الصوم الذي موضوعه شهر رمضان ، والحج الذي موضوعه شهر ذي الحجة ، وتذكر الرسائل العملية للفقهاء طرقاً إثباتيه لإحراز الشهر من خلال ثبوت الهلال معتبرين طريق الرواية المباشرة أو غير المباشرة هي الأساس للثبوت الشرعي أو مضي ثلاثين يوماً من الشهر السابق . ولست بصدد مناقشة هذه الطرق الإثباتية الشرعية بقدر فتح المجال للقارئ الكريم ليّطلع على ألية رؤية الهلال وإمكانية الإستفادة من معطيات علم الفلك في هذا الشأن فقد إستطاع هذا العلم من تحديد لحظة ولادة الهلال فلكياً كما إستطاع من تشخيص إمكانية أو عدم إمكانية رؤيته بالعين المجردة إستناداً إلى أن الماخوذ في لسان الأدلة الشرعية طريقاً للثبوت هي الرؤية وأهم مصاديقها هي الرؤية البصرية بالعين المجردة .

   ومع هذا التحديد وهو يتسم بالدقة و العملية بفضل أبحاث هذا العلم وتطوره الهائل وإستخدامه وسائل متطورة في مجالي الرصد والحساب

   ومن هنا ينفتح السؤال التالي ، وهو مثار جدل بين علماء المسلمين وهو أن الرؤية المأخوذة في ألسن الروايات كقوله (عليه السلام) صوموا لرؤيته وإفطروا لرؤيته أو صوموا للرؤية وإفطروا للرؤية أو غيرها قريباً من هذه الألسن هل هي مختصة بالرؤية البصرية أو تشمل غيرها من الرؤية كالرؤية الفلكية أو ما يسمى عند البعض بالرؤية بالعين المسلحة ..... وعليه تترتب  نتائج مختلفة لوضوح أن الرؤية بالعين المسلحة متقدة ومتطورة ومتمكنة من الرؤية أكثر من العين البصرية مما يجعل رؤيته بالأولى متيسرة دون الآخرى وبالتالي فإن المعتمدين عليها سيتقدمون يوماً على الأغلب على المعتمدين على العين الباصرة ........

   وثمة سؤال آخر هو أن الرؤية المأخوذة في الأدلة لإحراز الشهر هل هي على نحو الحصول الخارجي الفعلي أو على نحو تقديري على وزن القضية الشرطية ، لو إستهل الناس ولم يكن ثمة مانع من غيم ونحوه لرئي الهلال؟

   والجواب عن هذين السؤالين ينطلق من معرفة المراد من الرؤية وموقعها بالنسبة إلى إحراز الشهر أي هل أنها جزء من موضوع الحكم الشرعي أو هي مجرد طريق لإحراز العلم بدخول الشهر ؟

   وبعد تصفح الروايات الواردة في هذا الشأن من كتاب الوسائل للشيخ الحر العاملي (قده) ، يتبين:

1)   إن المراد من الرواية في ألسنة الروايات هو العلم والإدراك بإعتبارها الطريق المتيسر لعموم الناس في ذلك الوقت وليس المراد منها الرؤية البصرية بما هي ، وينتج من ذلك أن الرؤية طريق للعلم بدخول الشهر الذي هو موضوع وجوب الصوم والإفطار ، ولا خصوصية لها إلا أنها الطريق المتوفر لعموم المكلفين من دون كلفة زائدة . ويشهد لهذا المعنى أمران إن لم يدلا عليه .

أولهما :- مقابلة الرؤية في بعض الروايات بالظن والشك كقوله (عليه السلام) صوم شهر رمضان للرؤية وليس بالظن – وفي أخرى يقول (عليه السلام) وإياك بالشك والظن فإن خفي عليكم فاتموا الشهر الأول ثلاثين ..... ومقتضى النهي من الأخذ  بهما إعتبار العلم المستعمل فيه لفظ الرؤية من باب إستعمال السبب وارادة المسبب وإستعماله شائع في القرآن والسنة .

ثانيهما :- إن الرؤية بالعين المجردة هي الوسيلة المتيسرة لكل أحد كما يعرف ذلك من مكاتبة الإمام العسكري (عليه السلام) قال في أخرها تعليقاً على عد خمسة أيام بين أول السنة الماضية والسنة الثانية قال (( هذا الحساب لا يتهيأ لكل إنسان أن يعمل عليه ، إنما هو لمن يعرف السنين )) (الوسائل ب5 من ابواب أحكام شهر رمضان ح2) وبما أن  الرؤية متيسرة لكل أحد كانت الإشارة إليها مراراً في الروايات.

2) وحيث تكون الرؤية من أسباب العلم بدخول الشهر كان كل ما يفيد العلم حجة في ذلك ولذا ضم  الفقهاء في رسائلهم العملية طرق آخرى كالتواتر والشياع المفيد للعلم أو الإطمئنان ، وضمت الروايات مضي ثلاثين يوماً أو شهادة عدلين انهما رأيا الهلال ولو لم تكن الرؤية طريقاً للعلم أو سبباً له ومن هنا قبل من فقد حساً فقد علما  لما  كانت الإشارة إلى غيرها صحيحة .وإذا كانت الرؤية مجرد طريق للعلم بثبوت الهلال ودخول الشهر فما هو المانع من أخذ طرق أخرى أكثر أحرازاً لذلك ، كالرصد والحساب الفلكي وقد وصل إلى دقة متناهية كانت نسبة الخطأ في حساباته لا يتجاوز بعض الثواني كما يعلق الدكتور النعيمي على سؤال موجه له بهذا الصدد ، وكذا غيره من علماء الفلك والمهتمين بموضوع الهلال .

    وما يُقال أن الإستفادة من معطيات علم الفلك الحديث لا دليل عليه وبالتالي ما يُعول يكون من التعويل بلا دليل  غير سديد لأن الموجود في لسان الأدلة الشرعية غالباً ما يكون أصولاً وعلى الفقهاء أن يفرعوا عليها كما ورد في الخبر . ثم إن الجمود على ظواهر الأدلة الشرعية إنما كان بأنماط  الحياة الإجتماعية في زمن النص ، ومن غير المناسب أن يُخاطب المكلفون بصور وحالات لم يألفونها ولم تخطر ببال أحدهم ، مع عدم النهي عن الأخذ بها للقاعدة المعروفة ان ثبوت شيء لشيء لا ينفي ما عداه .

   وإن الوقوف على وسائل الإثبات القديمة لا يُناسب مع عالمية الإسلام وخاتميته فيما لم يمنع مانع شرعي من التعاطي مع وسائل الحياة الجديدة ، وهي عملية ودقيقة وتعتمد على الحسابات والملاحظات في الوصول إلى نتائج واقعية لا تقبل الخطأ ولا بنسبة ضئيلة كما عرفت من قول أهل الإختصاص . هذا مضافاً إلى إمكان التمسك بإطلاق لفظ الرؤية الوارد بعد عدم القرينة المانعة عن الإطلاق ليشمل الرؤية البصرية وغيرها من الرؤية . وقد تشبث البعض بالإنصراف إلى خصوص الرؤية البصرية للغلبة في إستعمال لفظ الرؤية بالرؤية البصرية آنذاك . وهو ممنوع الآن الغلبة لا تشكل قرينة مانعة من التمسك بالإطلاق كما هو مقرر في علم الإصول ، مضافاً إلى منع هذه الغلبة في الوقت الحاضر بالنسبة إلى ثبوت رؤية الهلال إذ قد تكون بالعكس تماماً في هذا الوقت وإن الرؤية الفلكية أغلب من البصرية يُعرف ذلك من إهتمام الدول بعلم الفلك ومراقبة الكواكب والإجرام ... فهل يلتزم القائل بالغلبة بأن الرؤية المجردة هي الرؤية الفلكية لا البصرية ؟

   وأما جواب السؤال الثاني – فإن الصحيح هو الرؤية التقديرية لا الرؤية الخارجية ذلك لأن موضوع الوجوب هو دخول الشهر وهو موجود واقعي لا علمي أي أنه إذا لم يوجد الهلال واقعاً فإن تحصيل الرؤية لا يكون سبباً لوجوده ،ولو وجد فإن الرؤية الخارجة قد لا تكون موجودة . فإن وجود الشهر لا ربط له بالرؤية الخارجية إلا بقدر ما تكون وسيلة للعلم بوجوده . وبعبارة آخرى أن العلم أو عدمه بالشيء لا يغير من الواقع شيئاً وحيث أن موضوع الوجوب هو دخول الشهر كانت الرؤية الخارجية الفعلية غير مؤثرة فيه .

   نعم الرؤية التقديرية على نحو القضية الشرطية القائلة أنه لو إستهل الناس ، ولم يكن ثمة مانع من رؤية الهلال لرئي الهلال ، وهذا لا يصح إلا على وجوده الواقعي ..  ومن هنا من يقرر وجوده الواقعي ؟ طبعاً أهل الخبرة والإختصاص في هذا الشأن وهم الفلكيون بعد إن رفعنا من حساباتهم صفة الظن غير القابل للتعويل عليه (( وقلنا بأن حساباتهم دقيقة إلى درجة العلم فضلاً عن الإطمئنان والوثوق والأخذ بها أخذاً  بالعلم لا بالظن ليرد بعدم حجية الأخير . فإذا تقرر ذلك عرفت أن إمكانية الرؤية التي يُعطيها الفلكي كافية بثبوت الهلال ودخول الشهر  الذي هو موضوع وجوب الصوم أو الأفطار ، وإن لم يره أحد فإن إفتراض الرؤية الخارجية يلزم منه عدم دخول الشهر ولو علم بوجود الهلال في الأفق بنحو قابل للرؤية ولكن منع منها المانع كالغيم أو إفتراض أخبار المعصوم بوجوده ، ومن الواضح أن الإلتزام بذلك لا قائل به .

   ولكن الإلتزام بالرؤية التقديرية هو عبارة عن إلغاء دخل الرؤية في دخول الشهر وحملها على الطريقة المحصنة كما هو الصحيح إلى بلوغ الهلال إلى الدرجة التي يكون قابلاً للرؤية في السماء ، كطريق من طرق العلم به . والمتحصل أنه لا معنى لكون الرؤية مأخوذة بنحو الموضوعية المحضة فإن موضوعات الأحكام الشرعية بيد الشارع المقدس ، وإلا لا مجال لتنزيل شيء آخر منزله الرؤية إلا بدليل ولا دليل على تنزيل قول الفلكي منزله الرؤية بخلاف ما لو قيل أنها مأخوذة على نحو الطريقة المحضة لإحراز دخول الشهر . وبه قال جمع من علماء المسلمين كالشهيد الصدر الأول والثاني وبعض المعاصرين وان تشدد بعضهم ولم يفتي بها مطلقاًً لأمور فقهية وعلمية لا حاجة للدخول في بيانها فإنها خارجة عن المقصود الذي هو بيان وجه إختلاف علماء المسلمين برؤية الهلال ليكون المكلف على تنبه في دواعي الأمر.

   ويبقى ما يُمكن أن يُثار من خلال بعض الروايات ، وهو إنحصار رؤية الهلال ودخول الشهر بالرؤية البصرية نفسها كقوله (عليه السلام) ليس على أهل قبلة  إلا الرؤية وليس على المسلمين إلا الرؤية . والحصر فيها إضافي وليس بحقيقي  أي أنه لا ينفي تحقق إحراز الشهر من طريق آخر غيرها  ، وإذا كان ذلك الطريق يفيد العلم أو الطريق العملي كقيام بنية معتبرة عليه .

   كما ويمكن التمسك بالحصر الحقيقي ويكون المراد من الرؤية هو العلم كم تقدم أنفاً  ، وكل ما يُفيد العلم بكون معتبراً شرعاً لأن حجية العلم ذاتية من أي طريق حصل . وتصبح معنى الروايات الحاصرة للرؤية أنه لا يجوز إستعمال غير العلم فيما يتعلق بالشهور و القبلة  .

 

محرك البحث

اخر تحديث

الاحصائيات

الطقس

3:45