الاحتفال بعيد الغدير
إن واقعة الغدير لم تمثل حدثاً تاريخياً تحددت مساحته الزمانية في وقت حدوثه كأي حدث آخر يدرس للعظة والعبرة أو لمعرفة سيرة تاريخ، وتتابع الأحداث لتشكيل صورة تنطلق من عمق تاريخي من تحديد آفاق المستقبل ليبقى في أروقة المكتبات وأوراق الكتب يتسجل لها حضوراً متناثراً كلما دعت الحاجة إليه.
وإنما هو حدث لم يقع في إطار تاريخي ليتحدد بحدوده ويكون له من الديمومة ما لقوة تأثير الحدث في حياة الناس ومصيرهم وبقدر ما يكون التأثير عاماً وشاملاً بل ومطلقاً ويلاحق حياة الإنسان في دنياه وأخراه لا ينفك عنه لحظة، وبه يقام صرح الدين ويشاد علاه وبه تسود امة الأمم وبه تبصر الأمة طريقها وتعرف رشدها ولهذه العناية لم يبرح الأئمة عليهم السلام كما كان صاحب الغدير يحتج ويحتجون لإمامته عليه السلام وكان يستنشد السابقين في الحضور في حجة الوداع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في المنتديات ومجتمعات الناس ((كل ذلك الاهتمام وتلك الرعاية ما كانت لتقع إلا ليكون حدث الغدير غضاً طرياً بالرغم من تقادم السنين وتعاقب الحقب والأعوام، ولذا أمروا الشيعة بالتعبد في هذا اليوم والاجتماع فيه وتبادل التهاني وإعادة مجده.. هاتيك الواقعة العظيمة)).
وإحياء هذه الذكرى إنما هو إحياء للشخص الذي مثل كل القيم بأعلى مستوياتها فكان هو والحق على حد سواء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله ((علي مع الحق والحق مع علي)) وهو بهذا الموقع يحتاج الى ديمومته في ذاكرة الأمة وضميرها لتعيش مفاخر وانجازات عظمائها تعتز بهويتها وشخصيتها الإسلامية التي أنجبت هذه الشخصية الفذة التي لم يعرف تاريخ البشرية لها نظيرا إلا برسول الله صلى الله عليه وآله فكان معلمه ومربيه منذ صباه وقد حقق فيه الرسول الأعظم الإنسان المتسامي والمتكامل الذي تريده السماء لتكميل مسيرة الرسالة بعد رحيل الرسول الكريم صلى الله عليه وآله صيانة لها من التلاعب والتضييع وبهذا الانجاز الذي حققه نبي الرحمة تبقى الأمة الإسلامية تشعر بالعز والتفوق الإنساني الذي أراده الإسلام لها ولا تنخدع بما يقدمه التاريخ البشري من مسميات وشخصيات لا ترقى في مستوى إنسانيتها مهما بلغت إلى شيء يذكر في مقابل شخصية الولي عليه السلام، وهذا الشعور بالعز ما تحتاجه الأمة لتتحرر به من نقاط ضعفها وذلتها في أوقات المواجهة والتحدي وتكالب الأعداء الذين يريدون بها وبإسلامها الشر كما أراده كبراء قريش في أوائل الدعوة الإسلامية.
ولإحياء الذكرى اثر بالغ في تأكيد منهج الحق الذي سار عليه الإمام عليه السلام بالوحدة الإسلامية نتعلم منه إيثار المصلحة العليا على خصوصياته الذاتية عندما يتطلب الموقف في أحيان معينة تجميد هذه الخصوصيات من اجل المصلحة الإسلامية العليا.
إن تحريك صورة الإمام في قضية إحياء الذكرى ورسم آفاقه البعيدة والعميقة تكشف زيف الكثيرين ممن يدعون انتسابهم للامام عليه السلام بعنوانه ولم يتعلموا منه شيئاً يذكر لا في صرامته وصراحته في الدفاع عن مبادئ الدين وعدم مجاملته على حسابها مهما كانت النتائج ولا في تضحياته الكبيرة لإعلاء حرم الدين وبيان أهميته ولا.. ولا.. ولا….
وقد نفهم من الذكرى إن حقاً للأمة من تربية عظمائها أن تعاصر ذواتهم العالية مقاماتهم السامية ليكونوا أسوة لها تتعلم من سلوكهم وطريقة تعاملهم مع الحياة ما تصحح به مسارها وتسترشد بنوره في ظلامها ترجع إليه وقت المحنة والبلاء كما كان السابقون يرجعون إليه عليه السلام في شدائد الأمور وصعابها وعليه شواهد تاريخية لا حاجة لعرضها الآن وذلك لوجود المبارك لحياته الدنيوية قد انقطع لموته عن امة الإسلام المتأخرة عنه ولكنها إن أرادت الاستنارة بنوره عليها إبقاء ذكراه حاضرة عندها نبراساً تقتدي وتهتدي به تأخذ منه ما يعينها في شؤون حياتها ومختلف أمورها من حركته الرسالية وتضحياته ما تخفف به عنها فقد تواجده معها وهي بالذكرى تحيا معه عظمة ورسالة من خلال إثارة إحياء ذكراه.
وقد يعوض ما وصلت إليه الأمة من عمق فكري وعملي لشخصيته المباركة لم تكن للأمة المعاصرة له مثل هذا العمق والثراء الفكري إلا اليسير فقدها لوجوده المبارك ومعاصرته لها.
ولإحياء الذكرى إظهار لموقعية الحق وعلوه على الباطل الذي ما انفك يرمزه من طواغيت ومستكبرين وظلمة إخفاؤه وتلبيسه على الأمة وتعميته بمزج كثير من صور الباطل وأبطال الانحراف كرجال للحق ساروا على الطريق المستقيم فأضاعوا على الأمة نبراس هدايتها وعروة اهتدائها ((والحق أحق أن يتبع)) وتضحيات العظماء باقية في ديننا في أعناق الأمة حتى تتحقق الأهداف التي من اجلها قدموا كل تلك التضحيات.
ولإحياء الذكرى إحداث أخرى اكتفي بهذا المقدار منها.
قاسم الطائي
13 ذي الحجة 1423هـ