المشهد الرائع الذي مثله المحبون للامام الحسين (عليه السلام) في الزيارة الاربعينية المباركة كان رائعاً في اكثر من صعيد ، فعلى الصعيد التعبوي كان عدد الزائرين قد فاق كل التوقعات بشكل لم يشهد موسم الزيارة مثل هذا العدد منذ اكثر من عشرين عاماً والكاتب يتابع الزيارة ويؤديها ، والمتوقع عندي ان العدد قد وصل الى اكثر من عشرة ملايين على اقل تقدير ، فقد سعت الجموع المليونية يشدها حب الحسين (عليه السلام) بشوق ولهفة منقطعة النظير وهي مترجلة لاداء هذه الشعيرة الايمانية ، لم تعبأ بتعب ولا مخمصة ولا تحذر ارهاباً يترصدها ويتربصها عند كل تجمع فقد تجاوزت بفعل حب الحسين ( عليه السلام ) كل الحسابات المادية والعادات الجارية في مثل هذه المناسبات ، فشكر الله سعيها وابان فضلها في نصرة الحسين (عليه السلام) وسجل لها موقفاً مشرفاً ستفتخر به عاجلاً ام آجلاً ان شاء الله تعالى وبذلك قد سمعت واعية الحسين فنصرته. ولا تعجب ان لم تسجل حوادث منازعة او مخاصمة يمكن ان تحدث في مثل هذه الظروف كحدث طبيعي بفعل الاحتكاك الحاصل بين الاشخاص وبذلك برهنت جماهير الحسين انها الاوعى شعباً على الاطلاق بل قد عبرت الى تفعيل قيم الخير والتجاوز والصفح عن الاساءة بكل نبل وخلق وكأنها تعيش اخلاق الحسين (عليه السلام) وهو يتجاوز عن المسيئين له ولأخيه ولأبيه، وتقدمت اكثر وهي ترسخ قيم التضحية والفداء في سبيل الخير والحق عندما تجود بكل ما لديها من اموال وجهد وراحة لتكريس الوجود الحسيني على صعيد الحياة الاجتماعية، وهي لا تملك من حطام الدنيا الا النزر اليسير، وبهذه وغيرها تكون قد كرست اهداف الحسين ورسمت لها طريق الفلاح والنجاح، وخرجت معبرة عن رفض الظلم ودحر الباطل الذي اراد لها ان تكون امة لا حراك فيها تؤمر فتطيع وتستعطي فتأكل فكانت ترجماناً واضحاً لكلمات النور الحسينية ((هيهات منا الذلة)). وترقت اكثر في سلم السمو فتناست احقادها وتركت عناوينها التي شتتها ذات اليمين وذات الشمال والتحمت في هوية واحدة وقضية فاردة هي قضية الحسين فلم تسمع رسماً للتقليد ولا لفظاً للانتماء ولم تقبل تسيس قضيتها او توظيفها لصالح جهة او كيان، بل قد ابتعدت بوعي الخبير والناقد البصير عن مواكب كان رسمها حسينياً وواقعها كيانياً وهو ما شاهدته شخصياً من خلال حركة الناس وبعض كلماتهم ، وهي بذلك قد تجاوزت ثوب واقعها الحاضر التي لم تجن منه الا الويل والحسرة الى الواقع الذي سيخلصها من جور الظلم وضغط الخوف وسيحصن لها سعيها من ان يقطف او يجيّر لغير صالحها ، واقع الانتفاض للحق والانتصار للمظلوم ورفض المنكر بكل اشكاله وبذلك ستكون قد حققت الهدف الحسيني، في اصلاح امة جده رسول الله (صلى الله عليه واله)، ويا لها من مكاسب ستجعلها مفتاح الخير لكل الامم والشعوب عندما تنتفض لواقعها المزري من دون المرور عبر بوابة العناوين والكيانات. ولا زالت متحدية فتجاوزت قيم الديمقراطية الموعودة عندما سجلت تفاعلاً انسانياً قد برهن على القيمة الانسانية الحقيقية بعيداً عن الجنس فكانت المرأة والرجل على حد سواء في الممارسة والاداء والخلق والحياء وكان الرجل احرص على المرأة من نفسه في ان تمس او تهان او تضام او ينظر اليها بريبة او تلذذ ، وهي تمارس اداءها للزيارة وسعيها في الزحف مطمئنة مستبشرة بفعلها التي تشارك فيه اخاها الرجل، في مشهد ايماني متطور لم تستطع ديمقراطية الغرب مهما تبجحت ان ترتقي الى ادائه. فقد تحققت عناوين المساواة بابهى صورها وبالطريقة التي نريدها لا الطريقة التي يريدونها، مساواة على مستوى التميع والتحلل والنظرة الهوائية للرجل عن المرأة في كونها متاعاً عند الطلب والحاجة الحيوانية من دون ضوابط من حياء وحواجز من خلق وشرف. وبذلك قد امرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وهو ما قصده الحسين (عليه السلام) في مسيره الى اهل العراق، وها هي جماهيرك يا حسين قد انجزت ذلك وهي تشعر بالتقصير امامك وتستميحك العذر في تأخرها او تباطئها عن اداء الدور، ولم تسجل اية حادثة تخدش حياء المرأة او تمس شرفها ، فهل يوفر دعاة الديمقراطية هذه الاجواء الاكرامية للمرأة ويرفع قيمتها لتساوي الرجل بالغاء خاصية الجنس والتسامي في قيم الانسانية. ومن المناسب ان نذكر رحابة الصدر ومستوى الخدمة التي قدمها اصحاب المواكب وقد فتحت قلوبها للزائرين قبل مواكبها وقدمت لها الحب والدعاء قبل الطعام والدواء فكانت محطات رحمة وهناء للزائرين ، ولو تمموا مجهودهم الرائع واستمروا الى يوم الزيارة لكانت جائزة فوزهم أثمر وأغلى فان الفلاح والنجاح عند اتمام المهمة واداء الواجب وقد أدوا الواجب بنسبة عالية ولا نريدها لهم الا تامة لو بقوا الى يوم الزيارة فان حاجة الزائرين عند العودة اكثر منها عند الذهاب . وهذه الخدمات المجانية لم تجدها عند شعوب الارض قاطبة الا في بلد الحسين ( عليه السلام ) بلد الرافدين ، رافد الايمان ، ورافد الكرم . والاعتذار لاصحاب المواكب باداء الزيارة في هذا اليوم وان كان مقبولاً الا انني اقول لهم ان بقاءهم لليوم الاخير يعني مشاركتهم لكل الزائرين وحصولهم على اجر المجموع ودعاء المجموع وهو الفوز الاكبر ، اتمنى لهم ان لا ينسوا ذلك في الموسم القادم كما لم ينسهم الحسين (عليه السلام ) في الشدة والبلاء . وقد يأخذك العجب من عدم تعرض هذه المجاميع البشرية الهائلة لحادث تخريبي وارهابي او اطلاق هاون فسأقول لك السبب ان هذا التجمع الايماني والالتفاف حول الحسين قد بعث رسالة واضحة الى كل المتصدين لمحبي الحسين بان للصبر حدود وان الرضا بالضيم والظلم ليس هو ثوبنا القادم ولا فعلنا المستقبل وقد ادرك المبغضون تلك الرسالة فانقلبوا خاسئين. وان كان للحس الامني العام دوراً ولأجهزة الامن دوراً ولبعض المؤمنين ممن يسميهم الاعلام (مليشيات) دوراً لا ينكر لكن تبقى حقيقة القول هو الضغط الذي مثله التجمع الجماهيري وقد زرع في قلوب الاخرين الخوف من الاقدام على رعونة كهذه، كي لا تتكرر مأساة سامراء وما افرزته من نتائج وقلبته من موازين وبذلك ترجمت الجماهير مقولة (صبراً على قضائك ولا معبوداً سواك). ويظهر للمتابع لمثل هذه الزيارة وغيرها ان تنمية لارادات الناس وتقوية لعزائمهم اخذة في النمو وستستمر الى ان يتحقق الوعد الالهي في الانصار للحق وظهور دولة الحق والعدل الالهي ، ولعل الزائر الواعي يجد ذلك عنده مكشوفاً ومحسوماً لا محالة وان المسألة ليست الا مسألة وقت ان شاء الله تعالى ، ذلك ان هذه الجموع المليونية عندما تتوحد ارادتها وتشتد عزائمها باتجاه قضية الحق والعدل فان توافق الاسباب الطبيعية معها آت وفق القانون المحكم في التأثير المتبادل بين عالمي التشريع والتكوين كما تشير اليه بعض آيات الذكر الحكيم كما في قول الله تعالى ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)) الاعراف : 96 وغيرها ، وهذه الارادات قد توحدت في نصرة ثار الله وابن ثاره في ملحمة جماهيرية لم يشهد لها تاريخ الانسانية مثيلاً ، وهي نفسها العاصم والمانع لهذا الشعب من التفكك والتشرذم الذي يريده الاغبياء قبل الاعداء ، وهي نفسها سترفض القسمة الضيزى الذي يحاول الاحتلال والمرتبطين بركبه تمريرها ، وهي من ترفض الطائفية المقيتة وهي من تلعن المتلاعبين بمقدرات البلد وهي من ستحسم الصراع في العراق لصالح شعب العراق وهي من ستقول لا خير في الحياة بعدك يا حسين ، وهي من ستدك عروش الظلمة والمستكبرين وهي من ستلعن المتزلفين والمتميعين على حساب الشعب المسكين ، وهي من ستقول كلمة الفصل الحسينية ، ( ومثلي لا يبايع مثله ) امثال يزيد واشكاله واعوانه . لكنها تنتظر من يوظف قدراتها ويلملم اوراقها وتستشعر منه الاخلاص وقبلها التضحية مسبوقة بالتقدم على الجماهير في ساحة المواجهة ولو ساحة المعاناة في الذهاب مشياً الى كربلاء ومشاركتها همومها وآلامها ، واستثمار فرصة الزيارة في التخفيف عن معاناتها ورد الجميل لها في تسنم الكثيرين مناصب في الدولة بفضل سعيها نحو صناديق الاقتراع التي وجدتها فارغة في مقابلة الاحسان بالاحسان . وكأني بها قد ندبت حظها واسترجعت أمر انتمائها فوجدت ان خير الانتماء هو الانتماء الحسيني ، صرخة المظلوم بوجه الظالم مهما أوتي من قوة . ان استرجاع قيم الامة ومكانتها وتعزيز قناعاتها بوجودها واهميتها ودورها الانساني لا يكون ولن يكون الا عبر بوابة التضحية الحسينية والمشاركة الفعلية لهدم الامة وآلامها، فعلى السياسيين ان يستثمروا هذا الزحف وهذه الاداة في اتجاه صحيح يتوافق والشعارات المطروحة ويتناغم مع تاريخهم في مواجهة الطغيان والاستبداد. والسياسي الذي يسير مع الجماهير على الاقدام قد شعر بالتأكيد بأهمية احترام الناس وعظيم خدمتهم في نجاحه السياسي وعمله الوطني ولو تخلص من اطار الموقع وحالة التميز وكان كأحدهم يمشي كما يمشون وتمازج في سيره ، وتحسس آلامهم وسمع كلماتهم وأناتهم لعرف ان خدمتهم فوق الواجبة ومداراتهم جهاد كبير ما كان لرجل السياسة ان يتحسسه لو لم يمش وسط الجمهور الحسيني ، يعاني التعب ويتحمل الارهاق فيكون فيهم كأحدهم لا متميز عنهم او مستفرد في حركته عنهم . نصيحتي ان لا تفوتوا الفرصة وهي امامكم تمر وانتم بأمس الحاجة اليها ، فانها معينكم في صراعكم السياسي مع الخصوم ومبتغاكم في بيان قوتكم وقدرة تأثيركم واعلموا انه اختبار لصدقكم ومحك لوطنيتكم ، وكان بامكان أي سياسي من اعضاء البرلمان ان يتقدم بخطوات لتوفير بعض الخدمات والرعاية لزوار ابي عبد الله الحسين ليعزز قناعة الناس به ويمتن ثقتهم بانتخابه ويبرهن لهم انه معهم في ساحة العمل وساحة العبادة ولكن لم يتقدم لذلك أحد !! . كما وظهر ارباك عمل السلطات المحلية في التخفيف عن كاهل الزائرين عند العودة حتى ارهقهم المشي رجوعاً الى مسافات بعيدة من اجل تحصيل عجلة لنقلهم ، وامكانيات المحافظات المتجاورة من حيث الالات والمركبات كافية لتوفير وسائط نقل لهم تشعرهم بان الحكومة التي انتخبوها عبر البرلمان كانت أهلاً لذلك، ولكنهم رجعوا صفر اليدين قد ارهقهم التعب واكلتهم الملامة وشعروا بانهم قد ضحك عليهم ولكن ولات حين مناص. ان الالتحام الجماهيري الكبير قد اقلق بما لا يقبل الشك حسابات الكثيرين ممن لا يروق لهم ان يمشي هذا الشعب على قدميه ينتفض لحقوقه المهضومة ويثور على مظالم وقعت عليه وستقع في المستقبل ان بقي ينتظر الفرج من افواه الاخرين ولن يقدموه له بلا مقابل بل لن يقدموه له حتى مع المقابل ، انها رسالة الحسين الدائرة مع حركة الزمن الى كل الارض تقرع اجراس التغيير مختصرة زمنها فيما لو وظفت من قبل اهل الحل والعقد بشكل واعي ومدروس لترسم افاق المستقبل الواعد لكل اجيال البشرية فيما لو تصاعد ايقاعها واتسعت تأثيراتها وصانت نفسها من آفات الاحتيال والالتفاف حول معطياتها من اجل مكاسب فئوية او طائفية ضيقة . فالحسين ( عليه السلام ) لم يخرج أشراً ولا بطراً ولا لطائفة دون أخرى وجماعة دون سواها بل خرج لأمة جده رسول الله ( صلى الله عليه واله ) وهي حاضن الجميع مهما اختلفت تسمياتهم وبانت هوياتهم في اعلان واضح وتصريح صارخ هو التخيير بين السلة والذلة وكان جوابه عظيماً ((وهيهات منا الذلة )) .
قاسم الطائي
22- صفر – 1428هـ