تفتخر امم الارض بمآثر تاريخها التي مرت عليه اجيالنا السالفة مستذكر من خلال الاثار الموجودة ذلك التاريخ وتعيش حالة الارتباط معه في وحدة متماسكة الاطراف من حيث الماضي والحاضر وصولاً الى المستقبل ، لما يشكله الماضي من رصيد ضخم من القيم والتراث التي تحفز ابناء الحاضر لديمومة الاستمرار على منوال ابداع السابقين وانجازاتهم على صعيد حضارة الامة .
فنرى هذه الامم تهتم كثيراً بالمخلفات الاثرية التي تحكي مكان السلطة ودور العبادة وابنية الانجاز المعماري من حيث دلالتها على اصالة هذه الامة وسموها الحضاري وموقعها ما بين امم الارض ومقدار مساهمتها في الانجاز الحضاري للارض .
ومن مظاهر الاهتمام تلك ان تسن القوانين وتشرع القرارات من اجل الحفاظ على هذا التراث والمنع من تبديده او تغييبه عن اذهان الناس ومشاعرهم لتبقى حيوية هذا التراث باعثاً قوياً لاجيال اليوم في الحذو حذوهم واعتلاء ناصية الرقي والتحضر والتفوق في الجمال الحضاري .
وقد تصل بعض العقوبات المفروضة الى حد الاعدام لمن يهّربون الاثار ويسرقون التراث اذ في الحفاظ عليه حفاظ على تاريخ امة بكاملها وسجل احداث لا يستغنى عنها في مجالات البحث والتنقيب .
ولا تختلف في ذلك امم الارض فحاضر كل امة هو امتداد لماضيها ، وعصارة ابداعاته في مجال الرقي والتحضر ، ويزداد الامر اهمية اذا كان لاثار الماضي ارتباط وثيق بعقائد المجتمع وممارساته الدينية والعبادية .
فتسعى حكومات الدول قبل شعوبها الى ضرورة صيانة معابد الذكر والعبادة مهما كلف الامر واستهلك من موارد الدولة ، فمن الكنائس المشيدة في القرون الوسطى ومن المعابد الممتدة في عمق التاريخ ومن دور للعبادة بقت شامخة على الرغم من القرون والاعوام ، وهي مضافاً الى كونها معلماً عبادياً يرتاده الناس فهي مكسب سياحي عظيم يدر ملايين الدولارات رصيداً الى المخزون الوطني مما يضيف بعداً آخر على ضرورة صيانتها والمحافظة عليها ، وان أي تفريط في معالمها التاريخية سيفقدها اغرائها السياحي كمورد تنموي مهم يتحمل مسؤولية فقده القائمين على البلد .
ومن معالم تاريخها الاسلامي الاصيل الذي يشد الفرد المسلم خصوصاً والمواطن عموماً مسجد الكوفة المعظم الذي ارتبط اسمه بمجموعة من أنبياء الله ورسله ممن حاربوا الطواغيت لتحرير الانسان من ذل العبودية ، كما ارتبط بقادة الاسلام الاوائل من المعصومين ( عليهم السلام ) ومن غيرهم فكانت قيمته لا توازيها قيمة لاي معلم حضاري من معالم الارض الا المسجدين .
وقد اهتمت به الشريعة قبل الانسان فاختص بميزة اكرامية هي اختيارية الصلاة ما بين القصر والتمام كغيره من المسجدين ، والحائر الحسيني .
وبقدر ما تكون المحافظة على شكله يبعده القديم وانشائه الاول يكون الارتباط معمقاً والاتصال بالسلف الصالح مؤثراً تشعرك ملامحه القديمة بموضع الشخصيات التي صنعت تاريخ الامة ومجدها وتعملك من تواضعها وبساطتها ما ينبئك سموها عن الدنيا وزخارفها ولو لا رسالة السماء في اعمار الارض واصلاحها من خلالها لتركت حبلها على غاربها لتعّلمك نشيد الاستغناء عن الدنيا وما فيها وتبقى ارادتك مرتبطة بالرب سبحانه وبالتالي لا تبقى أية رغبة للسعي في الارض من اجل الدنيا الا بمقدار ما يسعد الانسان فيها وينقله الى رحمة ربه في الاخرى ، فكان الزهد شعارهم ، والاعراض عن زهو الدنيا ديدنهم فملكوا القلوب قبل العقول فكانوا حقاً قادة ورادة .
ووجود المسجد بملامحه القديمة يقرب لك صورة هؤلاء الاعاظم ويربطك بالله متبركاً بالمكان الذي كان المعصوم ( عليه السلام ) ساجداً فيه او جالساً للقضاء او خطيباً للعباد وموجهاً للبلاد ، واذهاب صورة المسجد الذي حكى اثار الماضين بقطع صلتنا بالماضي ويحلل من ارتباطنا به ، وحيث يكون ماضياً مشرقاً وايمانياً فان الخسارة عظيمة والجرم اعظم يفقد الامة تلك القيم التي تحتاجها لتشد من ازرها وقت الازمات والشدائد وهي كثيرة بحمد الله .
ومن هنا كان الحكم الشرعي بالكراهة في زخرفة المساجد لانها تشد الانسان الى متاع الدنيا وتضعف ارتباطه بعالم الغيب والاخرة مما يفقده توجهه المطلوب في الصلاة وحضوره القلبي الذي به تقبل الصلوات ، وهي خسارة ما بعدها خسارة .
واذا قارنا بين زمانين لمسجد الكوفة المعظم نجد الفارق كبيراً بين مسجد كان يشدك اليه بروحانية موقعه وجمالية اثره فينقلك وانت لا تشعر بحركة علي بن ابي طالب ، والحسن ومالك وغيرهم ممن كان حركتهم دائبة في المسجد عبادة وعملاً وبين مسجد الآن لا يُفرق بينه وبين أي مسجد بني على الطراز المعماري الحديث ذات الزخرفة العالية التي تشدك اليها بعيداً عن روح العبادة ، وتشعر بانك في مسجد لا تمت اليه بصلة ، مع كل الصلة التي تربطك به عقائدياً وتاريخياً ، ومجتمعياً .
فعلى من تقع المسؤولية ، ولم نجد من اعترض على التغيير او تبديل الملامح بالرغم من كونها خيانة لتراث امة عريقة بل لامة عظيمة ، عظمت شأناً بالاسلام .
والغريب ان المؤسسة الدينية لم يهمها الامر ولم تعر له اهمية على الرغم من خطورته التي قد ستظهر بعد عدة اجيال ، لا اقل بالجانب الذي يتعلق باختصاص الفقيه وتحديد مكان التخيير بالصلاة ، اذ بتغيير ملامح الجامع تتغيير الاماكن ، ويتورط المصلون في امتثال الصلاة التخييرية خارج حدودها الشرعية ، فاذا لم تتدخل الشخصيات الدينية في تغيير التراث الاثري للجامع لا اقل لا تعذر في عدم تدخلها في تغيير حدود الجامع .
واما السلطة – فلا هم لها وليس هو من شؤونها ومسؤولياتها وقد تبين في ما تقدم انها المسؤول الاول ومن حق الامة ان تحاسبها على ذلك اذا وجدت في التغيير اساءة لتاريخها وتراثها بل ولدينها .
ولا ننسى الشعب واهلي الكوفة ومسؤولياتهم التاريخية في الحفاظ على ملامح الجامع كما هي لا اقل ان ذلك يمثل استحقاقاً للجامع عليهم وهم يعيشون ببركة هذا الصرح العظيم .
نخاف يوماً ان نقول على الجامع وغيره من اثار الماضي : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) سورة البقرة ) فتكون امة قد انفصلت عن موضع تاريخها .
18 – ربيع2 – 1427هـ