مشهد قريب من يوم البعث – لكل امرئ شأن يغنيه – انقطعت السبل وتبدد الامل وتقاربت المحن ، رعب وصمت وخوف ، جلاد يتبختر ، قد قتل بالامس الاب ضارباً عرض الجدار كلمات الضمير وحاجة الصغار لابيهم كي يوصلهم دار القرار ويرتب بيتهم قبل حلول كارثة القتل وانقطاع الذمام .
ابناء ثلاثة ، كبيرهم متزن متأني ، وصغيرهم متعجل متعجرف ، واوسطهم محتال مكار .
ومجتمع مرعوب قد ألبس ثوب الذل وركوب العار فلم يحضر فاتحة الاب المغوار وحملته سابقاً قد ارتدت ثوب التقية الختال ، فترددت بين حضور الفاتحة اظهاراً للأسى والحزن واضمرت فرحة وسرور ازاحة المعيق على طريق اعتلاء منصة الابرار ومقعد الاخيار.
كان الاب رحيماً عطوفاً ودوداً يحب للاخرين الخير ويريد لشعبه الفخار ، يحنو على الصغير ويتعطف على الكبير ويتواضع للوضيع والعزيز ، حتى احبه الصغار قبل الكبار والرجال قبل النساء ، فكان أمة في واحدٍ خافه وهابه السلطان وراح يفتش عن حيلة في الجن لعله يقلل من تأثيره الفتان ، ويبحث عن ثلمة يشينه بها فلم يجد الا زحمة الناس على باب داره لتسمع البيان و(قل يا ايها الكافرون لا اعبد ما تعبدون ………. ) .
فصمم الشيطان على اغتياله برغم حاجة الاهل والجيران ، وانجز فعل الشيطان فراح الاب ضحية مؤامرة محلته وسلطانه واصدقاء مستقره وترحاله ، تعاون الجميع لاسقاطه فتمت المؤامرة بنجاح وبقي الاولاد بلا جناح .
ان طار احدهم أكلته غربان المحلة وسحقه السلطان فاتفقت كلمتهم على تجميع أجنحتهم تدرباً على الطيران ، وارتكن بعضهم على بعض آوياً الى ركن شديد كان قد اشار اليه ابوهم قبل الوقت المعلوم .
واكتملت اهليتهم للطيران واستغلوا عش ابيهم لدفئه وسعده .
وسارت الامور متسقة ، والاوضاع مترتبة واحس الجميع فمن عرف الاب ونهل من اخلاقه وخلقه انه قد حفظ في ولده واطمأنت النفوس ، وسكنت القلوب الا قلوب المحلة اشتاطت غضباً قد تخلصنا بالامس من الاب فمن اين أتى الابناء ؟
فانطلقوا يتخافتون ، وامضوا الى حيث تأمرون ، نحن اكثر اموالاً واعز جنداً ، فلم يزعزع فعلهم طيران الابناء فقد استعدت قلوبهم للمواجهة ونفوسهم للمخاطرة ، وطأطأ بعضهم رأسه لتمر العاصفة على اخوته بسلام .
ومرت السنون والايام والقلوب صافية من حسد وامتهان – حتى نزغ الشيطان بينهم واصبحت لهم رسوم ولشخصياتهم مواقع وخصوم وحواشي وأتباع تتباغض لترضي صاحبها وتعادي لتعبر عن ولائها .
وبقي الكبير متزناً يرى الامور متدهورة والقلوب متوترة ، يتوقع لها أن تستيقظ في المستقبل لعلها تعود الى رشدها ولكن بعد فوات الاوان ، وخسارة الجولة والمكان والتعويض متعسر أو مستحيل .
وفجأة غاب من قتل الاب وسقط في سجن احباب الامس الذين اصبحوا اسياد الارض والعباد – فانقسهم الابناء بازائهم ما بين معلن عدائه لا يعرف قدر نفسه ، وما بين محتال يحاول ايهام الناس بقدرته على تحقيق مكاسبه وغاياته ، وما بين متزن يعرف قوة عدوه وشدة بأسه وعمق خبثه ، قد نبه عن ذلك كثيراً وأعلن عديداً أن الامور تؤخذ غلاباً ، وبالحيلة لا بالوهم كما عليه الأوسط ولا بالافراط والتهور كما عليه الاصغر .
ومرت الايام وتتابعت السنين وصدقت رؤيا الكبير وغاص الصغير في اعماق بحر الازمات ، ما ان يخرج من واحدة حتى سقط في أخرى ، ووجد بعد طول اختبار ان اصحابه يتمردون عليه جهاراً وينسلون منه لوذاً ، وان بقوا على اتباعهم له حفظاً لظاهرهم وتغريراً لمجتمعهم وفشل الاوسط في مستنقع الطبقات الاجتماعية بعد تجربة فاشلة مريرة فسب في الشوارع وألعن في المعابر وعلى رؤوس الاشهاد وعيون العباد ، وحاشيته يكذبون عليه تلبيساً للامر عليه حتى ظن المسكين انه الرجل الوحيد في الشارع الجديد .
وحزن الكبير على ما يرى من التراث نهباً ومن المنهج ضياعاً ، ومن خيبة الاب خسارة فلا العقول حاكمة ولا القلوب حازمة بل العواطف صادقة كانت أم كاذبة هي سيدة الجولة العائمة وهو من تفرق عنه الاخوان وخذله الاعوان واستضعفه الاعداء وربما الاصدقاء قرر ان يمضي بمشواره وحيداً صابراً فريداً ، رأى جهده مصادراً وعمله مسروقاً وتعبه مغيباً كما توقع قبل سنوات في رسالة بعثها الى الأوسط ، وأخبر بها الأصغر ، وهيهات الاتعاظ والاعتبار بل المؤامرة والاحتيال على تراث الاب وتركته فاقتسموه متعادين واخذوه متجاوزين قد كشفت الايام زيف ادعائهما وضعف تدبيرهما وسوء صنيعهما – ولات حين مناص .
فقد تطرف الأصغر مرة فخانه الأوسط وهو يحسن به ظناً وسانده الكبير وهو يسئ به ظناً وانجلت الغبرة وانكشفت الازمة الى تزمت جديد وعداء للكبير من نوع فريد .
ويمضي الثلاثة كل على منواله وما وصل اليه – فماذا ستكون النيجة نتوقعها سقوط غير المأهل وفشل غير الصادق وانتصار الصابر ، وستأتي الايام بما لم يصدقا بل لم يتوقعا فان قانون الحياة حاكم كما اخبر الامير ( عليه السلام ) : ( يوم لك ويوم عليك ).
واصبح تراث الاب في مهب ريح عاصف اصابت حرث الابناء فاكلته وعن قريب تذره ، وهيهات لما فات خلف .