المناوؤن للطرح الفيدرالي تنتابهم مخاوف عدة من هذا الإندفاع والإستعجال في هذا الموضوع إلى الدرجة التي تجعلهم قلقين على العراق ومستقبله بل على بعض الثوابت الدينية أو الإجتماعية أو العرفية ، وفي إستقراء قد يكون تاماُ لمعظم هذه المخاوف وجدت محصورة في:-
ا- الجانب العقائدي:- التاريخي – التوسع الجغرافي لمذهب أهل البيت ، إذا وجهنا النظر إلى تاريخ العراق وجنوبه خاصة وجدنا أن معظم العشائر العربية القاطنة في جنوب العراق إمتداداً من البصرة إلى الكوفة كانت على مذهب السنة والجماعة وقد تحولت أعداد كبيرة من أبنائها إلى المذهب الشيعي من خلال الإحتكاك والإمتزاج بين أهل المذهبين على مرور أكثر من قرنين من الزمن ، كما تخبر عن ذلك المصادر التاريخية المتعلقة بالعشائر العراقية ومواطنها وعاداتها ، فقد كان معظم عشائر الجنوب من اسد وربيعة وتميم وطي وشمر وجبور عشائر سنية ولكنها تحولت أو معظمها إلى مذهب أهل البيت ( عليهم السلام) من خلال المعاشرة والإحتكاك مع الشيعة المتركزة أساساً في الكوفة وما حاذاها من الإقضية والنواحي على طول الفترة التاريخية المارة الذكر ، فما نجده اليوم من ان معظم العشائر العربية الأصيلة على مذهبين بعضهم على مذهب السنة وبعضهم على مذهب الشيعة ما كان ليحصل لولا التقارب وإنعدام الحواجز النفسية التي ستخلقها الفيدرالية المزعومة بحيث يصطف كل فريق ويلتف حول مذهبه منتصراً له ومدافعاً عنه ضد أي إحتكاك قد يُقنع بعض أطرافه بالتحول إلى المذهب الآخر ، وهذا أمر وجداني فإن الطبيعة البشرية للإنسان وفطرته الذاتية تلزمه بالحفاظ على هويته وإنتمائه الطائفي أو العرقي بعد أن تفرض عليه الظروف وضعاً يدفعه بإلاحتماء تحت هذه المسميات التي تخرق الوحدة وتعلن التجزء .
فإذا ما سعى البعض نحو المشروع الفيدرالي فإنه سيفقد الأمة جواً من الإمتزاج والألفة يساعد على رص الوحدة ويباعد عن التمزق ويحدث جواً من الصفاء النفسي قد يقنع الآخرين على تبديل إنتمائهم المذهبي ، وفي هذا كسب عقائدي مهم قد لا نكون ملتفتين إليه في هذا الوقت بالذات ، وعندما يصبح جميع أهل الإقليم الفيدرالي علىمذهب واحد ، فإن فرصة توسيع حاضن هذا المذهب ستذهب إلى غير رجعة ، فماذا أفعل أو ماذا تفعل لتخدم مذهب أهل البيت؟ بعد أن وضعت الحواجز النفسية والإدارية للإلتقاء مع الآخرين ومحاولة إقناعهم بمذهب أهل البيت .
وليس هذا الإجراء إلا عاماً فإن الشيء نفسه يُطبق على مذهب أهل السنة والجماعة ، فكيف لهم أن ينفتحوا على الآخرين من أجل إنضمامهم ؟ أو إقناعهم بأحقية مذهبهم فإن فرصة كهذه ستضيع عليهم .
وقد يدخل أهل كل مذهب من جراء تقوقعهم في دائرتهم الجغرافية في أتون مناقشات ومساجلات لا يجني من وراءها إلا المشاكل والأزمات .
إذ كل واحد منهم يريد فرض قناعاته على الآخرين أو فهمه للنصوص أوالأحداث وحيث لا يكون ثمة هدف وراء ذلك يفتح لهم مجالات للحوار والتفاهم والإقناع فإن جواً من التكرار الممل وإجترار نفس الكلمات تسود الأجواء الإجتماعية والثقافية وستكون الخسارة أعظم وأكبر .
وقد تبعث هذه الإشارة الطرف الآخر الذي يُدافع من اجل المنع لتمرير هذا المشروع ، بالسعي لإثارته بهمة عالية بعد أن يجد أن غزوا مذهبياً قد يحصل لمذهبه وهو ما لا يريده بطبيعة الحال ، فتكون النتيجة عكسية بتمام أطرافها ، فالفريق الساعي للفيدرالية قد يمتنع أو ينأى من طرحه ، والفريق المعارض قد يسعى لإنجاز الفيدرالية إذا وجد بعد تأمل في حساباته أن الخسارة المتوقعة على الحيلولة دون إتمام المشروع أكبر من السعي على إنجازه .
يتضح هذا الأمر فيما نجده من الأثنينية المذهبية لأبناء عشيرة واحدة ، كعشائر طي الممتدة على طول العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه وتميم كذلك ، وجبور وغيرها ، وهذا الإمتزاج المذهبي يُعتبر أهم عاصم يحفظ وحدة البلد ويصون نسيجه الإجتماعي من التمزق والتجزء ، الذي قد يحصل إذا ماتم المشروع الفيدرالي على أساس جغرافي هو منقسم أساساً على بعد طائفي ، فالجنوب مركز التشيع العالمي والشمال مركز التسنن كذلك ، فما يُقال من أن المشروع ليست أسسه طائفية غير صحيح ويُخالف أبسط قواعد معرفة الواقع العراقي .
كما ان إرتباط أتباع أهل البيت بأئمتهم المعصومين (عليهم السلام) وضرورة التواصل مع مراقدهم من خلال الزيارات وفي المناسبات المقررة يُعقد المشروع الفيدرالي أكثر ويضع اتباع أهل البيت أمام مسؤولية تاريخية و أخلاقية وشرعية تجاه أئمتهم التي تتواجد مراقدهم في المنطقة الشمالية ، كمرقد الإمامين العسكريين (عليهم السلام) ، حيث لا يمكن أن يحتمل شيعياً على الإستعداد للتفريط بهذا الواجب مهما كلف الأمر.
وقد يهون من حجم المشكلة عند المنادين للمشروع إلا أننا نعتقد جازمين بانها ستكون أكبر واعقد مشكلة تواجه الشيعة في هذا الصدد ، وستكون الحلول مما تزيد في تعقيد مواصلة الأتباع لزيارة هذه الأماكن المقدسة ، بل قد يُعرضها للهدم والتدمير كما هو ليس ببعيد وادل شاهد على صدق هذه المقولة الحادث الجلل الذي أطاح بالقبة الذهبية لمرقد العسكريين وفجر مشكلة الإقتتال الطائفي بين المذهبين فهل يستطيع احد أن يضمن عدم تكرار هذا الفعل الشنيع ويهيئ أجواء مناسبة للزيارة بلا أية حساسية أو مشكلة ، يسأل نفسه قبل أن يُجيب ؟
ب-الجانب الإنساني –الإجتماعي – وقد يكون من متممات الجانب الأول ، وهو أن الالاف بل الملايين ممن يتواجدون في المناطق للمذهب الآخر ، كألاف السنة في مناطق الشيعة الجنوبية أو ألاف الشيعة في مناطق السنة الشمالية وهي أعداد لا يُستهان بها وأنها ستجد نفسها مضطرة للرحيل من هذه المناطق إن لم تكن قد إضطرت بعد موجة أحداث العنف المستمرة إلى هذه اللحظة ، فإن القاطن هنا أو القاطن هناك يجد نفسه غربياً وسط منطقة سكناه وسيُعامل على أنه ليس من أهل المنطقة و إن عليه الرحيل إذا أراد الخلاص والبقاء وشواهد حياتية عديدة ، أذكر واحدة منها حصلت قبل مدة:-
فإن أحد المسؤولين الكبار وهو من الشيعة ومن منطقة البصرة ، وله وجاهيته ومعروفيته في أوساط البصرة مُنع من الدخول إلى مدينة النجف الأشرف لمجرد إرتباطه بنائب رئيس الوزراء –الزوبعي- فقد تفوه بعض أفراد الشرطة من نقطة السيطرة لمدخل النجف الأشرف ، بأن الزوبعي عليه أن يحكم في المنطقة الغربية وليس هنا .ولم يشفع لهذا المسؤول أن أخبرهم بأنه على موعد مع بعض مراجع النجف الأشرف ، وأنه قادم لأداء زيارة الأمير (عليه السلام) ، وفي شهر رمضان الحالي شهر الرحمة والمغفرة ، فإُرغم على الرجوع إلى البصرة .
هذا الفعل التهجيري سيخلق مشاكل عديدة تتعلق بالسكن أو إيجاد الوظائف التي لا تتوفر عليها السلطة المركزية فضلا ً عن السلطات المحلية يُخبرك حال المهجرين الآن في أوضاع مزرية لا تسر عدو ولا صديق .
هل وُضعت الحسابات الإدارية والإقتصادية المناسبة لحماية ودعم هذه العوائل فيما إذا هُجرت؟ وهو واقع لا محالة أو أننا لا نفكر في عواقب الأمر بقدر ما نفكر فيه ونكون ممن ترك مقالة أمير المؤمنين (عليه السلام) ((إذا هممت بأمر فتدبر عواقبه )) .
ج- الجانب السياسي:- عندما تقرر الفيدرالية على أساس التقسيم الثلاثي أو غيره ، ولننظر إلى فيدرالية الوسط والجنوب فمن المؤكد لدينا أن نظر البلدان المجاورة وبعض دول العالم ستتعامل مع هذا التقسيم كواقع جديد للعراق وإن أولوية التعامل معها هو ما يقرره واقع الحال ، وأما التعامل مع كيان دولة إسمه العراق فقد كان في ماضي الزمان أما الآن فالواقع يحكي أمراً آخر .
ومن هنا ستتعامل الدول العربية والإسلامية (السنية) لو صح التعبير بشيء من الريبة والتخوف من فيدرالية الوسط والجنوب بإعتبارها ستمثل إمتداداً للنفوذ الإيراني داخل العراق وتوسيعاً للوجود الشيعي الذي بدأ يفرض نفسه كأمر واقع في المنطقة ينبغي التعامل معه كحقيقة مستجدة على واقع الحياة السياسية الدولية .
وفي مقابله ستتعامل معه إيران بإيحاء جملة من الروابط التي تربطها مع هذا الإقليم جغرافياً وعقائدياً وإجتماعياً وحوزوياً وستعتبر أن أهم مصالحها تنطلق من هناك فيقع هذا الإقليم في تجاذبات المتوجسين منه خيفة ، وبين التواقين له حقيقة وإذا إصطف مع المتوجسين جملة من دول العالم الغربي ، وأمريكا على راس القائمة فسيكون مسرحاً لصراعات إقليمية ودولية تجعل من إستقراره مستحيلاً ونموه إقتصادياً وسياسياً كذلك .
و لا يمكن تبرير هذه المخاوف وشل الحلف المرتقب لمواجهة الأمر إلا بالعيش ضمن إطار الدولة العراقية بكل مكوناتها وطوائفها من دون تحسيس الآخرين وإثارة مشاعرهم تجاه طائفة دون آخرى أو مذهب على حساب آخر ومن خلاله يمكن لعملية التنمية أن تسرع والإزدهار أن ينمو إذا أخلص القائمون على السلطة وإنقشعت سحب الإستبداد وإحتكار السلطة بفضل تفعيل سيادة القانون والإحتكام الى الدستور الذي يقرر فصل السلطات والتداول السلمي للسلطة و……
كما إن هذا الإجراء الفيدرالي سيُصعب عملية إنتقال الأفراد وحركتهم وتعاملاتهم مع عراقيين من أقاليم آخرى بفعل الإجراءات التي سيتخذها كل إقليم وهي تختلف بكل تأكيد عن إجراءات الإقليم الآخر وسينعكس ذلك سلباً على إحساس الشخص بإنتمائه إلى بلد يسمى العراق إذ يعتبر نفسه في حل عن إرتباطه بإقليم آخر ضمن إطار الدولة العراقية ، وقد يزداد الأمر سوءً إذا حصل تضخيم لمشاكل بسيطة من هذا القبيل وتفعيلها إعلامياً وسياسياً نفتح طريقاً لتدخل الأطراف الخارجية مما يهيء جواً مناسباً إلى حدوث نزاع بين الأقاليم ولا يشفع للقائلين بأن حكومة المركز ستحسم الموقف فإنها الان أعجز أن تحسم أمراً كهذا وهي غارقة في مئات المشاكل والأزمات التي لم تحسم منها شيئاً يفرزه الواقع .
نعم بعد أن تفرض السلطة المركزية سلطتها على تمام أطراف العراق ولها جيش قوي ومتطور قادر على التدخل وحماية الدولة ضد أية أخطار تهددها خارجية كانت أم داخلية ، أمكن للطرح الفيدرالي بتوسيع دائرة صلاحية الأقاليم وإعطائها بعضاً من الإستقلال في إدارة شؤونها دون الرجوع إلى المركز في كل صغيرة وكبيرة ، كان مقبولاً إلا أنه بحاجة إلى وقت تستعيد الحكومة عافيتها وتحل مشاكلها ويشعر أبناء الشعب العراقي قاطبة بأن حكومتهم قوية وقادرة على معالجة أي شرخ لوحدتهم الوطنية مع قدرتها على إنضاج المشروع الفيدرالي والسعي لإنجازه بما يعزز هذه الوحدة ويضمن حقوق الجميع وقطع الطريق عن الأجانب للتدخل في شؤون العراق وتحريك عجلته السياسية وفق مصالحها الخاصة التي تريد إنجازها في العراق أو تحقيقها على حسابه .
وبالتالي ستكون جميع الأطراف أمام خيارات واقعية نابعة من إراداتهم في إختيار الطريق الصائب ، وليس أمام خيارات إلجائية يدفعهم إليها ضغط الواقع الهزيل أو الخوف من المستقبل المجهول ، وغالباً ما تكون حسابات الواقع ضمانات وقتية سرعان مايعود النزف من جديد بجرح أعمق وأكثر إيلاماً بمنظار قوله تعالى وحكاية عمن تعجل حظه قبل يوم الحساب (( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ )) سورة ص: 16
26/رمضان/1427