بسم الله الرحمن الرحيم
الاخوة الحاضرون .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تتضح اصالة الشعوب وقيمتها بين شعوب الارض من خلال ما تتخذه من موقف تاريخي في مفصل من مفاصله عندما تتعرض حياتها الانتهاك وانسانيتها للاستهلاك من قبل الطغاة والمستبدين مستغلين حالة الضعف والنكوص التي تستفحل في ظروف الجهل وقلة الوعي وقسوة المعاملة وتعريض النفس للتلف لابسط زلة واتفه كلمة .
وفي مثل هذه المفاصل التاريخية توضع هذه الاصالة على المحك لتختبر حالها وتؤكد على اصالتها وحقها في العيش الحر الكريم وتنفض عن نفسها غبار الذل والاستخفاف الذي يذره على عيونها الحكام لتعشُ طريقها – طريق الحرية والكرامة ، فتطيع صاغرة وتلتزم خانعة بما يقوله الطغاة المستكبرين .
وعندما يكون الحاكم شمولياً ومستبداً فانه يسيطر على مستوى افكار الناس وقناعاتهم التي ينبغي ان تسير على وفق رؤيته وتصحيح تصرفه وان الناس ستنقسم بازائه الى فريقين او قبيلتين ، فريق رافض لا يقوى على ترجمة رفضه والا كان السيف بانتظاره وفريق غض نظره خوفاً او طمعاً يرى التمرد عليه موبقة والحركة ضده جريمة تأكل فاعلها وما حوله …… فسيبقى اصحاب الفريق الاول بين مطرقة النظام وسندانة الفريق الاخر ، يتحين الفرص لعل الزمان يجود عليه بواحدة ليشعل الارض لهيباً تحت اقدام الطغاة مستمداً من اصالة الامة وتاريخها وحضارتها وقادتها ورموزها محفزات لقيامه وانتفاضته ، وهذا ما حصل عندما هيئت الظروف الدولية ظرفاً مناسباً للانتفاضة على نظام طاغوتي بغيض ، فقد لقنته آلة الحرب لا سيادة الغربيين درساً اعاده الى رشده ومقدار حجمه .
ولم يكن من بد امام الشعب المسكين بفريقه الواعي الا ان يستغل الفرصة التي اركعت النظام فانهار سريعاً بكل قوته العسكرية وآلته التسليحية واعداده المليونية ، فانتفض صارخاً وشجب متحركاً بانتفاضة شعبية عامة اتت على ما تبقى لهذا النظام البغيض من ازلام وانظمة امنية وعسكرية سطّر فيها الشعب العراقي الاصيل واحدة من اروع ملاحم التاريخ في تصدي الطغاة وايقاف مسلسل ظلمهم واضطهادهم للامة .
ولم تبق هذه الانتفاضة المباركة للفريق الاخر الا ان يتفاعل معها ويشارك في احداثها فكانت وقفة شعبية راقية الاداء بايقاع سريع جعل من الصعوبة بمكان السيطرة على حركتها وتوجيه اندفاعها واستثمار نتائجها لافقارها الى القيادة الواعية التي تنظم ايقاعها وتعبأ لديمومتها بعد ان غابت عنها قيادات المعارضة العراقية في الخارج فكانت حائرة بل عاجزة عن فعل ما ينبغي لها ان تفعل وتستثمر فعل الشعب الذي طالما عولت عليه ولم يبق للشعب الا القيادة الدينية وحالها لا يختلف كثيراً عن المعارضين فاقتصر عملها في ارجاع الامور المنفلتة الى وضعها وعودة الحياة المضطربة الى سابقها .
وبقي المخلصون من ابناء الشعب يواجهون مصيرهم الدامي الذي ظنوا بانتفاضتهم المباركة انه ولى من غير رجعة حتى استكملت قوى الشر والطغيان اعداد خطتها وتغيير منهجها لغير هذه الانتفاضة التي وقف فيها المخلصون وقفة شرف وعز تذكرنا بماضي الامة الحبيب ايام اسلامها العظيم حينما هدمت اركان الطاغوت وكياناته الباطلة .
ولكن الفارق النوعي والكمي والتنظيمي جعل المنازلة خاسرة بحسابات المادة فراح الالاف من ابناء شعبنا ضحايا اجتماع قوى الشر في مواجهة الانتفاضة وقمعها بكل قسوة ووحشية ، شاركت فيها واعانت عليها القوات التي هزمت النظام في واحدة من مغامراته الطائشة .
واذ نستذكر هذه الانتفاضة المباركة وحركتها الايقاعية المتصاعدة التي انها النظام امامها وكأنه صرح ممرد من قوارير ، نعم قوارير من زجاج لا تلبث ان تنكسر امام ارادة الجماهير الغاضبة اذا رفعت عن اعينها النظارات السود لترى طريق الحرية وتثأر لكرامتها التي صادرها النظام وتعيد موقعها بين شعوب الارض التي رسمت طريقها بقوة الارادة ووعي الاهداف الالتفاف حول المخلصين الشجعان من ابناء البلد والذين يرون الامة لا تعينهم في ظروف نهضتهم او لا تشجع على الاقل لتصديهم للانقضاض على الواقع ومحاولة تغييره فكان المخلصون على الدوام يعيشون الحسرة وقلة القدرة في الوصول الى اهدافهم ، اهداف الامة التي هدرت كرامتها وصودرت ارادتها ليعيدوا لها جزءً من تاريخ ناصع صنعوه اجدادهم بهمم عالية وارادات صلبة تساقطت امامها امم ودول قوية .
ولم يكتف الاشرار من الغربيين بما انزله الشعب بطاغيته فراحوا يعيدون له الامرة ويعينوه على مواجهة الصدمة ، ذلك لانهم على الدوام لا يريدون للشعوب ان تتيقظ من نومها وتكرس ارادتها في استقلال نفسها لان ذلك ببساطة يعني انفلاتها من قبضتهم وخروجها عن دائرة تأثيرهم هذا هو سر دعمهم للنظام في مواجهة الانتفاضة وانهائها ولكنهم ابقوه تحت مطرقتهم حصاراً ومراقبة حتى اذا انهكه الحصار وانكفأ الشعب المسكين بعد ان غدرت به القوات الامريكية وادارتها السياسية وولاة النظام بعد الذل الذي لحقه وانكشاف اكذوبته التي راهن عليها بحب الشعب له – فولاه ظلماً واضطهاداً وامعاناً في ذله وخذلانه فماتت عنده البسمة ويئس من التغيير حتى غدا يتمنى ان يحكمه اياً كان غير الطاغوت اللعين .
فنظام منهك ضعيف وشعب بائس مسكين عاش لحظات امل في التغيير في التسعينات بعد ان وجد في المرجعية الدينية من يعيد له كرامته ويرجع اليه عزته فكانت مرجعية السيد الصدر الشهيد الثاني ( قده ) قبس الخير الذي عاش الشعب نوره يتأمل ويتحرك ، ومرة اخرى تكالبت قوى الشر والعدوان من النظام تنفيذاً وامريكا واليهود تقريراً لتصفية هذا البطل الذي ترجم المرجعية الى ممارسة ميدانية تحتك بالشعب عن قرب تلتمس منهم الاخلاص وتتحسس فيهم الهمة والنشاط لمن يستطيع ان يحرك هذه المعاني ويبعثها في نفوسهم من جديد .
ورجع اليأس يطرق باب الامة وهي متوجسة خيفة تنظر الامل ولا ترى لها من عمل وكأن التغيير ينزل عليها من السماء أو يطرقها من الارض ، والسماء لا تجود عليها الا بان تدرك حكمتها وانها لا تغير ما بأنفسهم الا ان يغيروها هم .والارض لا تعطيها حسبة بل منّة واستذلالاً وهذا ما حصل بالفعل عندما قرر اصدقاء الامس قلع صديقهم وربيبهم من كرسي الحكم بعد ان شارف على السقوط بتقادم الزمان ضمن مفهوم ( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (140) سورة آل عمران ) وانهاكه من قبل الشعب في محطات زمنية متتابعة كان اخيرها النهضة الاصلاحية لمرجعية الشهيد الثاني وقبلها بكثير وقفة الشهيد الاول وما بينهل الانتفاضة الشعبانية المباركة وحركات من هنا وهناك انهكت النظام واعجزت حيله لكيفية مواجهة ( التمرد الشعبي ) ولم يدرك بان عليه ان يغير من اسلوب تعامله مع الشعب وان يدرك طيشه واستهتاره الا بعد فوات الاوان .
وانتقل حالنا من الاستذلال الى الاحتلال وكأن قدرنا ان نعيش تحت ظل الظلمة والطواغيت ، وانقسم الناس سماطين ، سماط يشكر الاحتلال على ما قدم له من خدمة واسقط النظام ونسي المغفلون انه ساقط اساساً وما كان يكلف سقوطه الا وقفة عز وشرف اتنال التغيير بانفسنا فنشعر بقيمته ونحس بأهميته وندافع عن مكتسباته .
وسماط – يمثل القلة وهكذا اهل الحق واصحاب النظرة الواقعية الى الامور – يلعن الاحتلال ويستنكر افعاله في افساد العباد والبلاد ، وهو ينقد السماط الاخر قائلاً له بصوت خفي قد لا يسمعه الا الواعون واذا سمعوه ما تفاعلوا معه ان لم يقفوا ضده أتستبدلون الشر بالشر ، والسوء بالسوء بل الاسوأ ما لكم كيف تحكمون ؟ .
ومشكلة هذا الفريق انه محاصر من جهات :
اولها- الاحتلال البغيض نفسه .
وثانيها – الشعب الذي امات قلبه اليأس فالتمس الامل عند الذئاب والوحوش وهو لا يدري ما يفعل به ( فاقره ).
وثالثها – القيادات العاملة في الساحة السياسية والتي اخذت على عاتقها كما تدعي مشروع بان اسقاط النظام لا يمكن الا بمساعدة دول اخرى – فهي ملزمة معه وتريد خروجه لا اخراجه ، اما كيف ؟ فسوف يخرجه استكمال العملية السياسية ، وهو سراب بقيعة .
ورابعها – المؤسسة الدينية ولم تبتنِ لحد هذه اللحظة خياراً واضحاً في مواجهة الازمة التي تعصف بالبلد بعد ان وصلت الامور الى ازمة طائفية بغيضة واشرفت على حافة حرب اهلية تأكل ما يقدم لها ، وكانت على الدوام منفعلة امام الاحداث اكثر ما تكون فاعلة ومستبقة .
ولكن ما هو الحل … بيدك لو فكرت وعندك لو قررت ، وبربك استعنت ولرعيتك احترمت ولتاريخك قرأت ، ولقرآنك استشرت ، ومن تراثك اخذت ، وعلى نهج قادتك تحركت ، واعلم ان نصر الله لا يأتي الا بان تنصره فنصره موقوف على نصرك وما لم تنصره لا تطلب نصره .
ان دماء شهداء الانتفاضة وغيرها تستصرخنا رافعة صوتها اين حقي في الحياة التي قدمتها لكم اين دمائي التي اريقت على ارض الرافدين لنسقيها عزاً وكرامة وحرية ؟ اين افعالي الحميدة لا تقتلوني مرة اخرى بدعوى الاكرام في نشري في الجريدة ، واسمعوا نصحي لكم اعقروا الجمل والا لا يخضّر لكم عود ولا تقوم لكم ساق .
ولكن جملنا يختلف عن الجمل الذي دافع عنه العسكر فعقره الامام وانهى المعركة ، جملنا اكبر قوة واقسى فعلاً واخبث عملاً واكثر استكباراً واوسع تحشيداً واعمق ظلماً ، واشد تنكيلاً ، واستعينوا بالصبر والصلاة واعملوا ( إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128) سورة النحل ) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .