مواقف نادرة
كم من موقف لا يعادل في حال تقييمه على أساس ما يمثله من تحدٍّ وصمود إلا الشيء اليسير والاعتبار القليل ومع ذلك يضل أصحابه يتفاخرون به سنين طوال ويسطرون لأنفسهم مواقع قيادية ومواقف بطولية، وأحداث يسجلونها في مذكرات تاريخهم الشخصي والنضالي أو المعارضي، كما سمعنا ولازلنا نسمع عن الكثيرين ممن يتبجحون بإشارات بسيطة وأمور متعارفة ذهبت به مخيلاتهم ونفوسهم إلى كونها إشارات تقدير ورموز مدح وإكبار وهي ليست كذلك، أذكر واحدة منها على سبيل المثال لا الحصر، متعارف التهميش الحوزوي من قبل الفقيه إلى الطلبة بعبارة سماحة العلامة فلان.. فقد طار صاحب هذه الإشارة إلى مصاف العليين في سماء الحوزة مفتخراً بهذه الإشارة التي تعبر في نظره عن علميته في نظر الفقيه أو المرجع، وهي ليست كذلك.
إلا أن الزمان لا يمكن أن يبخل رجال ركبوا الصعاب وعقدوا العزم على مناصرة الحق والدفاع عنه مهما كانت الظروف قاسية وظالمة، ولا أعتقد ظرفاً أصعب من الظرف الذي مر على الشعب العراقي بعد أن قتل الشهيد السعيد (محمد الصدر) ونجليه (قدس سرهم) حيث القلوب حرى والعيون (دمعى). والنفوس مترددة لا تعرف ماذا تفعل وماذا تقول؟ وإذا بالشيخ الطائي قد شمر ساعد المجد وعبأ القلم في واحدة من أروع التصاوير المحزنة والمعبرة عن ذلك الرحيل الدامي للسيد الشهيد وأترك الباقي للكلمة لتعلن عن نفسها صارخة (يا ظلمة).
وإليك عزيزي القارئ المقالة بعينها وقد نشرت في مجلة الكوثر في العدد (1) السنة الرابعة 18 ذي الحجة 1419هـ، الموافق 5 نيسان 1999 بعد شهادته مباشرة والأمور على حافة من الانفجار ولم يتردد في نشرها وكانت بعنوان (كُسر القلم).
انقطع القلم عن سيل الكتابة الجارف والنبع الرائق لا لأنه انكسر كما عبر صاحب الكفاية (قدس سره) لأن قلمنا لن ينكسر بعون الله ولكن اليد التي بعثت فيه روح الحركة والتدوين قد نالتها يد الغدر والحقد والبغضاء على الإنسانية والدين فأخمدت حركتها بعد عطاء بلغ عشرات السنين طبعت فيه على صفحات الورق أفكارا خالدة وعلوما جامعة وأساليب متنوعة مبتكرة ألقت ظلالها على قلوب وعقول الناس على مختلف مستوياتهم وأذواقهم وثقافتهم، إنه يخاطب الكبير والصغير والمرأة وكل منهم يعي ما يسمع ويرشد بما يقرأ ويأنس بما يتذوق وكان المتكلم هو نفسه وعقله وروحه لأنه ينفذ إلى كل ملكات النفس روحا وعقلا وقلبا وحسا لا يعرف هذا ينبغي وذاك لا ينبغي ولكل سؤال جواب ولكل شبهة حل ولكل لغز فك والقديم بال والجديد مبتكر. مطر غزير على البلاد والعباد أخضرت به أرواح الناس بعد يبسها وانفتحت به عقول العباد بعد غلقها وانشرحت نفوس البلاد بعد حزنها ويأسها فكان لغتهم التي يتحدثون بها وعقولهم التي يفكرون بها ونفوسهم التي يتحابون بها. كان (قدس سره) وسيلته الإخلاص وتعبيره الحب ومنهجه الحق وثقته الإله دون العباد وسجيته التقوى وشعاره الإسلام ومناره ولاية أمير المؤمنين (ع). كان وحيد دهره وفريد أمره غريب زمانه وأعوانه وأنصاره لا تغره كثرة الأنصار ولا يوحشه تكالب الأعداء ولا تطريه الكلمة. رسم خطا لنفسه وطريقا إلى ربه حمله ثقيل وهمته أثقل ومسؤوليته كبيرة وتجاراته أكبر وآثاره أثمر وأياديه وفيرة وعطاياه جزيلة زق العلم منذ نعومة أظفاره وحاز من العلوم ما رفعه عن أقرانه. عبر زمانه وفاق نظرائه وكلل خطاه بنهاية مشرقة وخاتمة رائعة حتى بكته الغرباء قبل الأقرباء والأعداء قبل الأصدقاء.
نفسه طويل بطول ما بعث في الحياة من أمل ورسم في التاريخ من أثر. قلب يستوعب الأعداء والفسقة والفجرة قبل الأصدقاء. رحيما بناسه كريما بإخوانه، سباقا لقضاء حوائجهم لا يرد سائلا ولا يكسر خاطرا ولا يعبأ بالكوارث ولا تحركه العواصف كالطود الشامخ. حارت فيه قلوب المؤمنين وتعجبت لأفعاله عقول الآخرين. لا يستقر على حال ولا يرسو على قرار بعيد الخطى كثير الرؤى. وسعت ثقافته طبقات الناس طرا. هفت إليه قلوب غير مسلمة وأرعدت إليه قلوب قاسية مسلمة. لله دره وعلى الله أجره ولا عزاء إليه ولا وحشة لديه بل الوحشة لنا والتعزية إلينا إذ كان فينا فلم نفهمه وبادر إلينا فلم نجبه وتطاولت عليه ألسن الناس وتهجمت عليه شرذمة يدعون أنهم أهل دين وتقوى فغظ صابرا وعلى الله محتسبا وإليه مشتاقا. كان يردد كثيرا في درسه الشريف عبارته المشهورة (إذا بقيت الحياة ولكنها لن تبقى بالأبدان بل هي معنوية خالدة مادامت في النفوس رحمة وتقوى وخير وصلاح تقيم الفكر والقلم والدين والخلق). لقد جمع من الصفات ما لم يجمعه جمع وحاز من الخيرات ما لم تحزه مجموعة حتى استوت نفسه على الجود لا مثيل له في عصره ولا بديل له في أمره وعلى الله تؤول الأمور وعليه التوكل في شدتها والدهور، وإنا لله وإنا إليه راجعون. في الثالث من ذي القعدة من عام ألف وأربعمائة وتسعة عشر للهجرة ليلاً ما بين السابعة والثامنة دج الظلام وانكسر الناقوس وخسف القمر وابتلعت العقارب الأثر وا ضيعتاه بعدك يا صقر بل يا من حفر في النفوس أعمق الأثر ولا حول ولا قوة إلا بمن دار الدهر ولا يزال ولم يزل عزيز مقتدر. هذا قليل يا بحر كتبه أحد أبناءك البررة.