قال تعالى ) يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ (2) سورة الحشر(
يبدو أن عجلة الأيام قد دارت دورتها وانقلب رأسها قعراً والقعر رأساً ودالت الأيام دولتها ، ) وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (140) سورة آل عمران( نداولها بين يومين ، يوم لك ويوم عليك ، أيتها الدولة اللقيطة التي زرعها الاستكبار في قلب العالم العربي ، وحيث نشأت على ظلم الآخرين فقد استولت على أراضي أخرى عربية بالظلم والعدوان وكانت غزه واحدة من تلك الأراضي التي ابتلعها الاحتلال اليهودي للأراضي العربية عام 1967 . بعد نكسة الخامس من حزيران كما يحلو للبعض أن يسميها .
وظلت غزة تأن من نير الاحتلال وتحت قهره واستبداده طوال الأعوام الثمانية والثلاثين السابقة ، فلم تجدها المفاوضات والمساومات لتسترد عافية الحرية وتعود إلى أهلها عزيزة كريمة ، كما راهن عليها الساسة العرب .
ولكن انتفاضة الشعب الفلسطيني المباركة ، والتي سميت باسم انتفاضة الأقصى ، قد أتت أكلها وحققت حلم الشعب الفلسطيني الذي تركته أحداث الساحة السياسية العالمية وتداعياتها ، أن يواجه الاحتلال اليهودي وحيداً بعد انكفاء العالم العربي من ساحة الصراع العربي اليهودي وتحوله إلى الصراع الفلسطيني – اليهودي .
وها هي تجني ثمار جهودها المباركة من الانسحاب اليهودي من غزة – عزة العرب بعد تضحيات جسيمة قدمتها أبناءها البررة وقبلهم قادتها الشرفاء .
والغريب في هذا الانسحاب – ولا غرابة في سحر الانتفاضة عندما يريد الشعب الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ، وتنظيم الأسباب في حلقة الصراع بين الحق والباطل لتقول قولتها ) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) سورة الإسراء ( الغريب فيها – أن الدولة المحتلة انسحبت بلا شرط ولا مفاوضات مرغمة على ذلك بعد أن علمتها الانتفاضة درساً في تاريخ الشعوب وصراع الأمم ، بان سلاح المقاومة مهما بدى بسيطاً ومتواضعاً إذا كانت تقف ورائه إرادة صلبة وتصميم قوي فانه يقهر أقوى الجيوش وأحدث الأسلحة ، وها هي النتيجة بلا أي تزييف ، انسحاب من غزة بدون قيد أو شرط ، ومن طرف واحد .
وهذه هي الهزيمة الثانية التي تمنى بها الدولة اليهودية التي أسست على الباطل والقهر والقوة في غضون خمس سنوات بعد الانهزام من جنوب لبنان ، وما بني على القوة لا يسترد إلا بالقوة ، وهي الحكمة التي ضلت الشعوب المغلوبة على أمرها أن تعيها إلا بعد أن تسترد وعيها وعافيتها وتجرب خطها في مسارات أخرى من المفاوضات أو الحوارات أو العمليات السياسية أو ……… .
وكان معرفتها سر استردادها حقها المغتصب يكمن في مرورها عبر تجربة المفاوضات وتحين فرص التغيرات الدولية في الساحة السياسية العالمية ، ولم تكن إلا سنوات عجاف على الشعب الفلسطيني إلى أن صعّّدت حركة المقاومة الوطنية من طريقة أدائها ومواجهتها للاحتلال فقد وجهت إليه الضربات تلو الضربات مما اقلق الإدارة اليهودية خوف تأثير هذه الضربات على النفسية اليهودية التي وعدت بالحماية من الجيش الذي لا يقهر على ما كابر عليه الأمريكان واليهود ودول غربية أخرى ، تعتيماً للحقيقة وحفظاً للتوازن في منطقة الشرق الأوسط .
ولوقف تداعيات الانتفاضة المباركة على الشعب اليهودي بادرت متخبطة بتطبيق خطة الانسحاب من غزة من طرف واحد .
وكان لغزة أن تكون عزة للفلسطينيين وفخراً للمؤمنين بقضايا المصير وتقريره ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (8) سورة المنافقون ( ولا عزة لغيرهم ، وحيث تكون عزة المؤمنين من عزة الرسول وعزته من عزة الله ) إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا (65) سورة يونس ( ) فلا غالب لكم اليوم ( .
إن الضربات الموجهة التي وجهتها انتفاضة الأقصى إلى الجسد اليهودي الذي انهمك متخبطاً لكبح الانتفاضة فلم يفلح فراح يفتش عن مخرج له من هذه الأزمة ، ووجدها فرصة لصد ورد الانتفاضة بإعلانه الانسحاب عن غزة ، وقد بدلها الأحرار إلى عزة للشعب الفلسطيني وحدثاً تاريخياً كبيراً كانت الأمة بأمس الحاجة إليه .
وها هي اليوم تعيش نشوة النصر ورد الهزيمة ، وإدراك الحقيقة التي لا تميتها الهوسات الإعلامية والتصريحات الكارتونية لسماسرة السياسة حقيقة أن الإرادة فوق كل اعتبار وان العزيمة سيدة الموقف وان الصمود يصنع النصر وان طال به الأمد . وقد فتشت عن الخطاب القرآني فوجدته يخاطبها بقوله تعالى :
) اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) سورة البقرة ( .
) إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ (104) سورة النساء ( .
) {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ (96) سورة البقرة( .
) وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ (3) سورة الطلاق ( .
وكل هذه الآيات وغيرها هي دلائل صدق وخطاب حق لمن أراد أن يتعامل مع قضايا الحياة بصدق ووعي تام .
إن الدرس الذي أعطته الانتفاضة للشعب العربي عموماً وللفلسطينيين خصوصاً عميق عمق جراح هذه الأمة المنكوبة ” عميق في وجدانها وشعورها يعزز فيها معاني التضحية والفداء من اجل قضايا المصير والحق ” ويقنع الأمة بقدرتها على تجاوز العقبات التي صنعها الاستكبار في نفوس أبناء الأمة العربية موحياً إليها بأنها امة متخلفة ومتراجعة لا تستطيع النهوض بمسؤولياتها التاريخية وقدرتها على الإبداع من جديد وأنها بحاجة إلى رعاية وتأهيل من الغرب .
سيبقى تاريخ 15 – 8 – 2005 ، نقطة تحول كبرى في ساحة الصراع العربي ، اليهودي وسيكون بداية التحرير الكبير لكافة الأراضي المحتلة ، بل نقطة تحرر الإنسان العربي من وهم الشعور بالهزيمة والخذلان ، وسيعيد للأمة بعض أمجاد ماضيها العريق .
وسيكون الفخر كل الفخر لشهداء الانتفاضة المباركة الذين عبدوا بدمائهم طريق التحرير وعودة الحق السليب ، وسيذكر لهم التاريخ العربي والإسلامي تلك التضحيات بمزيد من الفخر والاعتزاز ، وسيحفز الأجيال اللاحقة على التأسي بهم واللحوق بركب الشهادة الذي شرعوا فيه .
إننا نحيي الشعب الفلسطيني هذا الانتصار العظيم ونشاركه الفرحة بالنصر كما شاركناه الحزن بالهزيمة والاحتلال ، انطلاقاً من ثوابت ديننا الحنيف وأعرافنا العربية الأصيلة )من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم ( ورحمة الله على الشاعر الفلسطيني الذي انشد :
سأحمل روحي على راحتي والقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تســـر الصديـــــــق وأما ممات يغيـض العـــــدى