قصة / في احد شوارع بغداد

في أحد أيام الحر الشديد وفي أحد شوارع العاصمة بغداد ، ولم يكن في المكان من زرع فلا نخلة مرفوعة ولا شجرة مزروعه فالتقى الحر والإزدحام وحرارة التبليط حتى ضجرت النفوس وأنقبضت الأرواح ……. وهنا ظهرت فتاة جميلة سافرة كاشفة تطاردها أعين الطامحين وتتباعها نظرات المتخنثين حتى راح يهمس بعضهم في آذن البعض الآخر من هذه المتغنجة المتميعة ؟ في مشيها ، لم يصب أحدهم حقيقة أمرها . وما أن مر رجل هرم قد أنهكته السنين وأكل الدهر قوته وفتوته . وقد أحتفظ بعقل راجح وحكمة وكياسة ، وهو يخط برجليه ليقطع طريقه الى مقصده فتجمعت الناس إستغراباً لهيبته وإستئناساً بخبرته في معرفة خفايا الأمور وأستفاده من فراسته في كشف المستور فتطفل بعض المتجمعين وحاول أن يسأله……  .

        قائلاً : عمو هل لك أن تدلني من تكون تلك المتغنجة المتميعة الجميلة التي طار لب الجميع لحظة مشاهدتها ؟

       فأجابه الشيخ : وكيف لي أن أعرف طريقاً لم أسلكه منذ سنين وقبعت  في مسكني  ضعيف مسكين ، لا يزورني صديق ولا يعينني حميم حليم ، والكل قد ملّ كلامي ، وتركوا مرامي فأصبحت وحيداً أفتش عن قبري بين اموات الأحياء ، وأزقة المتحضرين .. وها أنت تراني وحيداً من غير ناصر ، وغريباً من غير أنيس ، وضعيفاً من غير معين.

        المتطفل : مهلك يا عمو أنت تحمل هموم الدنيا على رأسك ولو كنت أعرف همك ما سألتك مسألتي ولتركت نفسي  لحيرتي ……. .

        الشيخ : يا بني لما لم يسمع كلامي في زهو أيامي وإنفرادي في كلامي فكيف لا يسمع وفي زمن كثرت الأصوات وترفعت عن النصيحة النفوس وغابت عنها الفكرة الصحيحة ….،  فدب اليأس في قلبي وأسودت الأرض في عيني ، وأصبحت أرى كل قادم يسألني لرغبة يرجوها لنفسه ، وغاية ينشدها لزهوه ..، وأنا كما ترى لا أغازل النفوس الطرية ولاالأهواء الشيطانية . وقد تأملت فيما سألتني وفكرت فيما طرحت فوجدت أن أحسن لك الجواب وأبرك في العتاب ، فإن قبلت جوابي كانت لك فيه الحسنى ، وإن رفضت كلامي كانت عليك الحجة .

    المتطفل: ومعه البقيه تسمع الحوار وتنتظر الجواب من الشيخ ، مالك لا تأمنا في الجواب و لا تقدر لنا أستغرابنا العتاب ، فنحن من أمة قد تكالبت عليها أمم الأرض ، وداست بأقدامها ديارنا وقطعت أرحامنا ، فأصبحنا لا نأمن من الغريب، ولا نطمئن لنسيب ولكنك مختلف عن الجميع وشعورنا يقول هو ما تأملون في مسيرة الطريق وحماية الثغور ، والتعجيل بالأمر المستور .

    الشيخ: ذهبت بكلماتك بنا بعيداً ، فمن سؤال عن جميلة مدللة تتراقص في مشيها وتبرز مفاتن جسدها لتحرك الآلات ونشعل المشاعل لهيباً .

      المتطفل : شيخنا الآن يجر الآن والصورة تأتي بالصوره . وفي أذهاننا معاني تتداعى فتداعت الى ما سمعت ، ودعنا نرجع الى مسألتنا الأم .

      الشيخ : سألت : فأسمع ، أما تلك العارية السافرة ، فهي ما يسمى بعرف المتحضرين (الحرية) وما نسميه نحن أس القضية ، حرية ميعت شبابنا ،  وعرّت نسائنا ، وتشبه أبنائنا فصرنا لا نميز بين ذكرانا وأناثنا ، كلهم على وجه واحد وبشكل فارد من تقطيع للأجسام ، وحصر للبنطلون وتحمير للخدود ، وإبراز للنهود ، فكنا في حيرة قد نضطر لاستخدام حاسة لمسنا للتمييز بين الجنسين أو نخلعهم للتفتيش ، وهذه فضيحة كبيرة حاولت منعها فلم أفلح . وعلى الرغم من بياناتي وصراخاتي وأناتي ، ومع تفاعل معي في قصدي قد أخذه الغرور وأضل الطريق الموفور .

     المتطفل : لقد شوقتني كثيراً  لمعرفتك .. من أنت بالله عليك؟

     الشيخ : لو بحت لك بأسمي ستلعن لحظة الأمس لانك كنت تمشي فوق رسمي ولم تحترم شأني أنا أخلص واحد لكم ، وأكثر عداوة لي هي منكم .

     المتطفل : كيف يا شيخنا ؟ وضح أكثر ، لقد خلطت عليّ الأمور .

     الشيخ : أجتمعت عليّ أمتكم ورؤسائكم ، وجندت لكم الدنيا متعكم ، والأموال طغيانكم فحاصرتموني في غرفة مظلمة لا يرى لي فيها رسماً ولا أسماً .

     المتطفل : ألم يكن لك ذرية وأولاد أو أنك لم تتزوج الى الآن.

      الشيخ : وكيف لي بالزواج ولم يكن لي من كفء ومن كان كفء أو كانت فقد طحنتها القوانين ، وداست عليها الدبابات ، فرأيت العزلة خير لي من معاشرتكم ، وهي شر لكم من قطيعتي.

      المتطفل : يزداد كلامك غموضاً وأسلوبك غرابة ، ألم تقل لي من أنت وقد أقسمت عليك بمن تعبد ؟! .

       الشيخ : بمن أعبد أو بمن تعبدون من السلطة والوجاهه ، والمال والجاه ، فأني أعبد من تعرفونه أكثر مما تعرفون أنفسكم وتنسونه أكثر من كل نسيانكم، أنه الغريب بينكم والمرجع اليكم ، في كل ورطة تطلبونه ، وفي كل نشوة تنسونه ، أنتم مخادعون ومكرة وجاحدون، أعطاكم كرماً وأحسن أليكم تفضلاً ، فكان كرمه عندكم غروراً وأحسانه اليكم جبروتاً ، فقابلتم أحسانه بالإساءة وكرمه بالجحود .

      المتطفل : أنا أسالك من أنت ؟ وأنت تقول لي من أعبد !!

       الشيخ : هاهي عصبيتكم وجبروتكم تكسف عن ضعفكم، وتسفر عن ظلمكم لانفسكم ومجتمعكم ودينكم .   

      المتطفل : مالي كلما قلت قد أقتربت من الجواب أبعدتني عن مسألتي وعن تحصيل المطلوب ، نحيتني .

       الشيخ : إذا كنت مستعداً للجواب فأسمع ، وإذا سمعت فأتعض ، وإذا أتعضت فالتفت ، وإذا ألتفت فأسترشد .

       المتطفل : ولم كل هذا ؟! .

        الشيخ : أنه مفتاح حلكم ومضمار فوزكم ونجاحكم .

       المتطفل : ما هذا السر العجيب الذي تغير تعبيرك عنه في كل مره .

       الشيخ : أنه فعلاً سر عجيب حيث به حياة الأمم والشعوب وما من بركة تنزل ولا نقمة ترفع إلا بفضله ومن عطاياه .

       المتطفل : أين هذا الذي تقوله ؟ .

      الشيخ : أمامك لكنك لا تراه ، لانك غمست نفسك بوحل الهوى ، وشهوة الغريزة ، فأصبحت عيناك مغشية لا ترى إلا ما تشبعت به من مناظر الحرية التي جئت تسأل عنها ، ومفاتن كذبة (السرسرية) .

       المتطفل : كيف ذلك وعيناي سليمتان ؟! .

      الشيخ : هذا شأنك أنت ونفسك .

       المتطفل : بالله عليك أرحمني يرحمك الله .

      الشيخ : يرحم الله من يعرف من هو أمامك ، ويحدثك بكلامك .

       المتطفل : ولِمَ لا تقول من ؟! .    

      الشيخ : أمر بالمعروف قد ضيعتموه بأفعالكم ، ونهي عن منكر قد أفشلتموه بأهوائكم فأنا ياهذا المغرور… الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فهل وجدت أو سمعت معروفاً نُسي  أو منكراً قد عُرف وشاع بينكم من دون حياء حتى أمسى رديفكم ، وصاحب أنسكم . وستعلمون أي حق ضيعتم وأي جرم أرتكبتم ، وعندها سيقول لسان حالكم..((ياليتها كانت القاضية))