بمناسبة الذكرى السنوية لاستشهاد السيد الصدر الثاني قدس سره الشريف
كلمة القيت في مدينة النجف الاشرف وعلى طلبة الحوزة العلمية الشريفة
علماء الدين الاسلامي هم امتداد لعلماء الامة السابقين من المعصومين (عليهم السلام) واولياء الله الصالحين ( رضوان الله عليهم ) فهم ورثة اولئك ورثوا العلم والعمل فكانوا خير خلف لأفضل سلف وحينما يكون المنبع واحد وهي الشريعة فان تشابهاً كبيراً سيجده المطلّع ان لم نقل تماثلاً من الاحتفاظ بالفارق بين الجيلين ، جيل الاجداد وجيل الابناء .
ومن هنا نحن نعيش ذكرى استشهاد السيد الاستاذ ( قدس سره الشريف ) وقد اقتربت ذكراه من ذكرى جده الامام الصادق عليهالسلام فمن حقنا ان نتساءل هل ثمة تشابه بين الجد وابنه ونقصد التشابه الحركي والنهضوي والاصلاحي وكيفية التعامل مع الاحداث عندما يتسلط الظلم على البلاد متخذين مال الله دولا وعباده خولا .
الجواب : نعم هناك تشابه كبير بين الشخصيتين في مواجهة الاحداث – نذكرها مرتبة متسلسلة :
الأول :- كما عاش الامام الصادق u نهاية دولة الطغيان والاستبداد فقد عاش كذلك ابنه الصدر ( قدس سره ) نهاية دولة العصيان والطغيان ، مع فارق ان الامام u قد امتد عمره الشريف لبداية دولة هي اشد ظلماً وجوراً من الاولى والصدر لم يسعفه القدر بان يعيش دولة الظلم والطغيان حيث الصبية على كراسي السلطة والدولة بيد الكفرة ، ولكنه عاشها بامتداده وقوة تأثيره في نفوس محبيه ومريديه فكان أثره باقياً وتأثيره واضحاً فكأنه موجود بوجوده المعنوي وبعواطف الناس القوية حباً له وإكراماً لشخصه .
وقد استغل الامام u ضعف الدولة كما هو حال الدول في نهايتها ليبث علوم أهل البيت ( عليهم السلام ) علوم الاسلام وحقائقه وافكاره ومفاهيمه التي ارادت دولة الباطل ان تحطمها فسعى مع ابيه لتأسيس الجامعة الاسلامية الكبرى في مسجد الكوفة واصبح ذكره يتردد على ألسنة العلماء وكلمات الفقهاء ، كل يقول حدثني جعفر بن محمد .
وابنه البار كذلك ، استغل ضعف الدولة وخروجها منهزمة امام المد الغربي والتحالف الدولي ، منكسرة هزيلة سقطت هيبتها وذهبت أيامها ، ولكن تكالب الباطل على إبقائها واستمرارها حال دون انهيارها .
فسعى بكل جد واجتهاد لإعادة مدرسة الاسلام ومنبع الفقه والاصول حوزة النجف الاشرف ، حاضنة العالم الاسلامي وموضع فقهه وأفكاره ، فكانت جامعة الصدر ، تثبيتاً لذكرى أستاذه الشهيد السعيد ( محمد باقر (قدس سره) ) جزءً من الوفاء وإظهاراً لأسم ضيعه الاعداء ونساه طلبة العلم الفضلاء .
الثاني :- استغل الامام الصادق u اهتمام الدولة المنهارة بمشاكلها وحروبها وتباكي عناصر الدولة الجديدة وشعاراتهم بالطلب لثارات آل البيت ورفعهم السواد ، فكانت فرصة مواتية له في اتمام مشروعه التغييري بعد اصلاح الخلل في مفاهيم الاسلام وتنقيته من كثير مما لحق به نتيجة الاختلاط مع الاقوام الاخرى ذات الثقافات والافكار والفلسفات الغريبة عن الاسلام .
فكان الامام u حصن الاسلام وراعي القرآن من الدنس والتحريف والتشويه ، وصيانة عقائد الامة من التلبيس والتدليس كأساليب جندت الخلافة الاموية كل قدراتها لتوجيه المفاهيم الاسلامية خدمة لتسلطها وتبريراً لجرائمها .
وقد استغل الابن البار شهيدنا الصدر حملة النظام الايمانية لينطلق في رسالته نحو نشر الوعي الاسلامي وايقاض الامة من سباتها وزرع قيم التحدي وتهيئة الناس للمواجهة ، بعد تصحيح كثير من المفاهيم التي اصبحت صبغة للعلماء كمفهوم التقية ، وبسط اليد وما يكون افضل مما كان ، وما لنا والسلاطين ولم تخرج المفاهيم الحوزوية عن دائرة التغيير التي حققها الشهيد ( قدس سره ) بعد ان نقدها بشدة وبين مواطن الضعف والخلل فيها ، واسباب تردي المجتمع من جهة ابتعادها عنه .
الثالث :- ان كُلاً منهما قد واجه طاغوتاً لم تعرف الرحمة الى قلبه سبيلاً ولا الشفقة الى نفسه طريقاً يقتل على الظنة وينشر الفساد تمييعاً للعباد ويقتل الاسياد ضماناً للانقياد .
وقد اراد الدوانيقي مرات عديدة ان يفتك بالامام u لانه كان مصدر الخطر الحقيقي على سلطته فَوجُودهُ الاجتماعي الكبير يورقه ويقلق باله ، فلم يهدأ إلا بقتل الامام u وكانت محاولته جميعاً قد مكر الله بها إلا الأخيرة بعد عشر سنوات من حكم المنصور .
والسيد الصدر حاول النظام تصفيته باعتقالات ثلاثة ولكن الله يدفع عنه شره ويميط عنه كيده حتى وصل أيضا إلى عشرين سنة من حكم الطاغية فقتله ونجليه بحقد وحقارة بعد ان لم تنجح عنده كل أساليب التضليل والتشويه لصورته الناصعة التي انطبعت في قلوب محبيه رضوان الله عليه .
الرابع :- ديدن السلاطين الظلمة ان يغرّزوا حكمهم للبلاد برجالات دين تشرعن لهم اعمالهم وتبرر افعالهم ، وتصبغ محاولاتهم بصباغ الدين لأقناع واستدراج العلماء الى صفهم بالتكريم تارة وبالتهديد أخرى ، فان أثر التكريم اكتفوا به وإلا فالتهديد هو نهاية المطاف للعظماء من رجال الدين الذين يرون السلطة باطلة والحكم ظالم والسعي لخلاص العباد منه ضرورة ولو بالطرق السلمية والثورة الاصلاحية ، ولما لم يجد طواغيت عصرهما من بد الا بتصفيتهما قتلاً وارتكبوا جرائم العصر الكبرى بحقهما ، لأن قتل العالم قتل العالَم وهو قتل الناس جميعاً .
فان الظلمة على طول التاريخ ، مهما كانت مواقفهم الاجتماعية ووظائفهم الرسمية لا يتحملون المصلحين والخيّرين اذا شعروا منهم خطورة على كياناتهم وتهديداً لوجوداتهم الاجتماعية بل حتى لو لم يشعروا فان أثر الانحراف والابتعاد عن الصراط يدفعهم من حيث لا يحتسبون الى التنكيل والبطش بأهل الخير والاصلاح ، وإلا ماذا فعل الشهيد الصدر ( للطاغية ) وهو يرفع شعار الحملة الايمانية التي اراد بها تحسين صورته الداخلية وترميم قبحه العالمي بالتصوير لهم بان مجال الحرية الدينية مفتوح وان حريات التعبير عن الشعائر الدينية مكفولة ، نعم كفلها بقتل أبطالها.
الخامس :- كان الامام الصادق u قد تنبأ للمنصور بانه سيكون الخليفة وان الامر له في قصة معروفة وقد سماه الصادق لصدقه في تنبئه ، والسيد الصدر قد تنبأ لآثار الطاغية عندما قرأ في موسوعته عن الامام المهدي ( عجل الله فرجه الشريف ) بان البلد سيمر باقسى ظلم ممكن ليتربى الموالين ويتمحص المخلصين ، ولا اعتقد ان أحداً يخرج عن تقييم حكم الطاغية بأنه الاقسى في تاريخ العراق ، وكانت خطواته مع السيد الصدر من اجل الايقاع به واضفاء المشروعية على عمله ومباركة افعاله فكان العكس هو الصحيح فقد اتخذ السيد الشهيد السلطة معبراً وجسراً ليمرر من خلالها لمشروعه الاصلاحي الكبير فكان الالتفاف عليها منهجاً جديداً عن الابتعاد عنها ، وحينما شعرت انه استغلها وضحك عليها أهتزت تصرفاتها تجاهه من تخويف وترهيب عن حضور صلاة الجمعة من خلال المدارس الاعدادية والمتوسطة في النجف خاصة ، ومن خلال فرقه الحزبية وتوصيف السيد بالعمالة وانه فقيه السلطة … ولما وجدت ان محاولاتها باءت بالفشل وان مشروعه الاصلاحي قاب قوسين أو أدنى من الاتيان على نظامهم والانقضاض على سلطتهم عجلوا بصفقة مع اسيادهم في تصفيته ، واشعال مشاعر الناس حرقة على فقده ، وانعطاف الناس عليه سعة ، فبكاهُ العدو قبل الصديق ، والذي وقف ضده بالامس استعمل رسمه اليوم وتباكى عليه تغريراً لمحبيه وطمعاً بمريديه ولكنهم كانوا أعز شأناً وأينع تلاحماً مع سيدهم الشهيد فلم يتفاعلوا مع دعاء المعادين ودموع التماسيح .
السادس :- ان الامام الصادق u كان قد حيّد السلطة وان كانت ضعيفة كما قلت في التشابه الاول السابق فقد جنب نفسه الاحتكاك بها واشعارها بخطره فلم يعبأ بدعوات الخراسانيين ومطالبته بالخروج والثأر لآل محمد وان له كذا من الانصار أو السيوف كما في بعض المرويات ، وكانت احاطته بظروف زمانه واحوال أهلها خير معين له على عدم الانجرار وراء دعوات من هذا القبيل، بل آثر السكوت قائلاً ان الوقت ليس وقتي والزمان ليس بزماني ، وبهذه الكياسة استطاع إمامنا الصادق ان لا يعطي المبرر الكافي للسلطة في التضييق على مشروعه الاصلاحي الكبير ، وقد اتخذ طريق التدرج منهاجاً في دعوته وآلية لمشروعه .
وهكذا سيدنا الصدر الشهيد السعيد ( قدس سره ) فهو لم يعبأ بما كان يكال إليه من تهم وتوجه إليه من نقود وكان يعرف بالضبط ماذا يريد وكيف يحققه ومتى يصدع به ، لا يتكأ على ادعاء مدع وقد عَرض عليه حينها من بعض المؤمنين مشروعاً استشهادياً فلم يقبل وأصرّ على مواصلة نهجه الهادئ واسلوبه اللين مع سلطان زمانه ، ولكن الامور لم تكن لتروق للطاغية فأشار أكثر من مرة وفي بعض المناسبات الى تصفية السيد الشهيد ، والكل يعرف مكالمة المحافظ الهاتفية له طالباً منه تخفيف اللهجة وتجديد الاقامة لبعض رجال الحوزة فأجابه ان كان أمراً أجبنا وان كان طلباً رفضنا ، وقوله أمراً يشير الى انه لا يعارض السلطة ولا يتمرد على أوامرها ظاهراً ، وهو معذور لقلة الناصر وشماتة الحوزة وتنكيل البعيد ، وخذلان الصديق ، ونكران الكل لما أتى به من جديد فلم يسعفه أحدهم بكلمة ولا نصره بمقالة ، واصحابه الذين تعب عليهم تربية واصلاحاً ارادهم في جولة اخرى وموقف اصعب اهتماماً لمشروعه واكمالاً لمشواره ، كما انه ( رضوان الله عليه ) لم يغتر بالجموع الغفيرة خلفه فان له في تاريخ الماضين عبرة وفي احداث زمانه اسوة وبتصرف زملائه موعظة .
السابع :- لم تكن الثورة التي قام بها امامنا الصادق u قائمة على السيف والمواجهة الحربية مع الطغاة والظالمين بل كانت ثورة من نوع اخر ، بعد ان وجد الناس قد ابتعدوا عن تعاليم الاسلام واحكامه وقيمه راح يعزز قيمتها في نفوسهم ويبذر بذورها في قلوبهم فارادهم دعاة لتعاليم الاسلام صامتين ينبئ فعلهم عن حسن خلق وعمق ايمانهم ليرى الاخرين فيهم صدق الفعل قبل صدق القول ، وكانت من وصاياه : ( عليكم بصدق الحديث واداء الامانة ) فقد كررها كثيراً واكد عليها عديداً الامر الذي يكشف لنا مقدار تدني الامة وانتشار الرذيلة والاخلاق السيئة فيها ، انتشار الكذب حتى اصبح سمة العامة قبل الخاصة ، وشعار السلطان قبل البطانة والاعوان وتكرس الخيانة في النفوس وامتطاؤها علامة يفتخر بها السذج من الناس ؛ خيانة الدين الذي اضاعوه والامانة امانة الرسالة التي غيبوها ، وحرمة المال والعرض الذي انتهكوه ، كما ان الدعوة الصامتة ليرى الاخرون منهم نبل الاخلاق وحسن السرائر لتكون تصرفاتهم اقوى على الاقناع وابعد عن مطاردة ومتابعة ازلام السلطان وان يكتشفوا بحسن سيرتهم بطلان دعوى اسلام الخليفة واعوانه ومن يرتبط به وبفلكه فيقعوا في المقارنة فيهم ويهتدوا الى كذب شعاراتهم ، وكان u دائم التأكيد ( كونوا لنا دعاة صامتين) ، حتى استطاع الامام u ان يشق طريقاً للاسلام في نفوس الناس ويرسم ملامح مدرسة اهل البيت علماً وعملاً ، فكان له ما اراد .
والشهيد السعيد كان دائم التأكيد على التقوى والورع ونصرة الدين والمذهب والتشجيع على الدراسة والهداية ، ووصيته دائماً الدين ، هو المهم قبل كل مهم ، وقد صنع ( قدس سره ) أمة صالحة اتسع قطافها حتى شملت المسلمين كافة بل العراقيين عامة ، ولم يستثن السلطة فدعاها للتوبة والرجوع الى الله وان فرصة التوبة لا زالت سانحة وهي امام ايديهم ، وقد أثرت دعوائه المتكررة في كثير من افراد النظام فأخذ الكثيرون يتوافدون الى صلاة الجمعة لاستماع الوعظ والارشاد والرجوع الى طريق الحق والابتعاد عن طريق الشيطان .
وكان كلاهما يستهدف ما نسميه بسياسة سحب البساط من تحت اقدام الطغاة وقد حققا نجاحاً الى حد كبير ، فالامام u حقق النجاح في عودة الاسلام صحيحاً ودراسته حقيقة لا زالت آثار مدرسته معاشة الى يومنا هذا والى يوم القيامة ان شاء الله تعالى .
والسيد الشهيد قد حقق نجاحاً في اعادة الناس الى سالف عهدهم بالدين والالتزام باحكامه وتشريعاته التربوية ، فقد تقلصت في عهده جريمة سرقة السيارات ، اكثر الجرائم التي كانت تقلق النظام وتثير قلقه بالرغم من إجراءات تنفيذية قاسية من الاعدام والمصادرة والسجن المؤبد ، وقد استطاع صدرنا ان يحسمها بجهوده وجهاده حتى اعترف بعض افراد النظام ان جريمة سرقة السيارات انحسرت بشكل تقريبي ، وهذا ما عشناه وهذه احدى ثمار منهج سيدنا الشهيد ( قدس سره ) .
الثامن :- وهو الاخر وليس الاخير ان اثر الامام الصادق u قد استمر في امة الاسلام واضحاً جلياً قد افرزت مدرسته علماء ملئوا آفاق الدنيا في مختلف العلوم والى ازمة العهود المظلمة عندما انتهت الدولة الاسلامية كحضارة شاخصة على ارض الدنيا ، وقد طورد أصحابه وشردوا وقتلوا .
وكذا السيد الاستاذ ( قدس سره ) قد اثر في النفوس فاصبح الانتساب اليه مغنماً والركوب على جادة طريقه مكسباً والانضواء تحت اسمه مصعداً ، والكل فرح فخور بالانتماء الى نهجه والسير على طريقته ، ولا زالت الاثار شاخصة والاحداث حاكية عن ان امة السيد الصدر قد اكدت وجودها وارست قواعدها وبرهنت على قوتها وصمودها في مواجهة مع اعتى طواغيت الارض رهبة ، واقوى جيوش الدنيا عدة ، ولكنهم مطاردون أسوة بأصحاب الامام الصادق u فهل صدقت ان الصدر كان امة في رجل ( قدس الله نفسه الزكية ) ووقفنا لاتمام مشروعه والسير على هدى افكاره وانواره لنكون نعم خلف لأفضل سلف .
(( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ )) الصافات : 61 .
3- ذي القعدة – 1427هـ